الخميس، 4 ديسمبر 2008

بلال خبيز: شعوب اصبحت قرابين الكاميرات

حين يصبح دمنا رخيصاً بفعل المقاومات
لا شك في أن الكثيرين ممن كانوا قليلي المتابعة لما يعرض على شاشات التلفزيون، وفي وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، اضطروا في الأسابيع القليلة الماضية إلى معاودة الاهتمام بمتابعة هذه الوسائل، فالأزمة المالية التي عصفت بالعالم، ووقائع الحملة الانتخابية الأميركية التي حفلت بالكثير من التوقعات والمفاجآت، استثارت فضول من كان قد سئم من أخبار إغلاق معبر رفح وفتحه، التي تتكرر من دون انقطاع، فضلاً عن الموت اليومي في العراق وأفغانستان الذي لم يعد يثير أحداً.
ليس لأن ما يجري في هذه البلاد قليل الأهمية، بل لأنه تحول من طبيعته السياسية التي تتيح للمرء أن يحسب أنه قادر على التأثير في مسارها، إلى طبيعة قدرية تجعل الدم المراق والجوع والعطش والظلام أشبه ما يكون بأخبار الطقس التي لا طاقة لنا على التفكير في تغييرها أو التحوط منها.
لقد تحولت غزة إلى مدينة مظلمة، ولم يعد في خبر إظلامها ما يجعل المشاهد أو القارئ يفكر في التضامن أو المساعدة أو محاولة تبديل الأوضاع وتحسينها، لكن وسائل الإعلام التي كررت إلى ما لا نهاية عرض هذه الفظاعات وتحليلها لم تكن تستطيع الانصراف عنها وترك الدم من دون كاميرات، أو جعل الجائعين والغارقين في الظلام يغرقون من دون شهود، مع ذلك كان الخبر على الشاشات يمر عادياً ولا يثير في المُشاهد أي انفعال.
أتت الأزمة المالية والانتخابات الأميركية التي أسفرت عن فوز باراك أوباما التاريخي بمنصب رئيس الولايات المتحدة لتعيد إلى وسائل الإعلام وهجها المفقود، وشيئاً فشيئاً بات الحديث اليومي في كل مكان من العالم حديثاً في الاقتصاد الافتراضي وتوقعاً لتقلبات أسواق الأسهم المعقدة، وفي بعض الأحيان استشارة منجمين للتعرف على تقلبات السوق المحتملة ومساءلة نجوم وأبراج حظ. ولم يلبث هذا البث المتواصل الذي لا ينتهي أن حوّل اهتمام العالم كله عما كان من قبل محط اهتمام. وبمعنى من المعاني استطاعت أوراق النقد المتبخرة في الأسواق المالية أن تتغلب على الدم وأن تصبح أكثر حرارة منه، وكان من حظ الرئيس الأميركي المنتخب أن تحول انتخابه ومسار حملته الانتخابية انتخاباً ومساراً حارين ومشوقين، أكثر بكثير من الجنود الذين يسقطون يومياً في أفغانستان ومن المدنيين الذين تستهدفهم المقاومات لتجعل من جثثهم صناديق بريد لإرسال رسائل لمن يهمهم أن تصل إليهم الرسائل، فمنذ بداية الاهتمام بمفاعيل الصورة ودور وسائل الإعلام في المعارك السياسية والعسكرية، أصبح دم المدنيين يهرق استجلاباً للكاميرات والمراسلين.
لا سبب يدعو إلى سفح هذه الدماء على هذا النحو المفجع إلا لأن الذين يسفحونها يريدون أن يثبتوا أنهم قادرون على سفح الدم، وأن سفح دم القريب ومن يقع في المتناول هو أمارة لا تدحض على الرغبة والنية في سفح دم الغريب والمحصن خلف ألف جدار وجدار. العبارة واحدة ومفهومة: نحن قساة على من ليس له من عداوتنا نصيب إلى حد إهراق دمه وذبحه أمام الكاميرات، مما يعني أننا لن نتردد طرفة عين في قتل من نعتبره عدواً، لأننا نجعل من أبناء جلدتنا وأهلنا عبرة له ليعتبر.
لكن استسقاء الدم على النحو الذي درجت عليه المقاومات العبثية في المنطقة، لا يعمل بعد الدوام الرسمي، والأرجح أن وسائل الإعلام العالمية والمحلية كانت تصور وتتابع أخبار القتل في العراق وفلسطين وأفغانستان رفع عتب وخجلاً من التجاهل. أصبح الدم ماءً على الشاشات لكثرة ما أريق لسبب ومن دون سبب، بل أحياناً، كان الماء أنفس وأثمن من الدم في غزة، وقطعاً لا يستطيع الدم في غزة أن يوازي النفط سعراً وقيمة ومكانة.
الدم... الدم، هذا ما امتلكته المقاومات العبثية وهي تستحضر روح الكاميرات. الكاميرات تريد أضحياتها لتحضر، لا تحضر من دون مناسبة جليلة، ولا تلتقط صوراً إن لم يكن الدم طازجاً والأرواح مزهقة تمام الإزهاق، لكن إهراق الدم عبثاً وانتظاماً جعل الكاميرات أقل حماسة مما كانت عليه... الصورة تتكرر كل يوم، لا جديد فيها، ولولا أن الأخبار المثيرة نادرة وقليلة، لما كان ثمة أحد ليهتم بصور القتلى في الشوارع جثثاً معدومة النبض.

عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .