السبت، 20 ديسمبر 2008

فادي العبدالله: هذه صورتنا

وهم الانتصار الأناني
حين يستجلي المرء ما كتب عن فيلم "بدّي شوف" لجوانا حاجي توما وخليل جريج، فإنه لا يجد في الأحكام المطلقة و"الفتاوى" الثقافية التي رمي بها معياراً من المعايير التي ربما يتسنى له القبول بها، بل طغيانا يتخفى وراء اقنعة التذاكي والبداهة الشائعة، أو خبثا يرفض عرض النفس على العالم وامتحانها به مفضلاً التلطي وراء الصورة النرجسية للضحية أو للبطولة.
أقنعة الطغيان
انتقاد فيلم جريج وحاجي توما يتم من منطلق "برودة" كاترين دونوف في التعاطي مع الدمار، وكأنما ينبغي لها أن تنهار باكية على الطريقة المصرية، أو أن تلقي خطباً عصماء على الطريقة السورية، كي نقتنع بأنها "رأت"، أو هو يتم من منطلق تقسيم الفيلم الناس "أشراراً" يمنعون التصوير في الضاحية، مع أن هذا ما حدث بالفعل بحسب تصريح دونوف للصحافة اللبنانية وينشرون صور حزبهم على طول الطريق إلى الجنوب (كأنما تفتري الكاميرا على الطريق، علماً بان للمخرجين عملاً تجهيزياً جميلاً يعالج مسألة لافتات الطريق هذه وصور الشهداء المتبدلة بهوتاً بعد لمعان، ونسياناً بعد ذكرى)، و"اخياراً" يمنحون "اليونيفيل اذناً بالتصوير "دون عناء"، علماً بأن الفيلم يشير إلى الساعات الطوال التي انتظرها الفريق قبل الحصول على الاذن بتصوير الحدود. أي ان المطلوب هو الموقف "المكشوف" (أي المباشر) والدمع والميلودراما التي يكني احد الكتبة عنها بعبارة "المغزى الدرامي" والموقف السياسي الصائب، وإلا فالويل والثبور، وعظائم التهويل والتهديد بحرمان "التنظير" من اللعب في صفوف الفريق الذي عمل وصوّر وأنتج. فالتنظير في هذا المحل هو ما يأتي ليستكمل الصنيع لا ليمهد لتقبله، بحسب الناقد الذي لا يعود من لزوم أصلاً الى قراءته في هذه الحال، وكأنما علاقة الفرد بالفن أكثر "طبيعية" من علاقته بالأطعمة، وهي على ما يعلم كل من خرج من مطبخ والدته أنها تحتاج تأهيلاً ودربة وتعلماً كي يستطيع تذوقها. فهل يطلب ممن لم يفهم تاريخ الفن ونظرياته ولم تبصر عينه لوحة في حياته، أن يتقبل اللوحات "التصويرية" كما يتقبل التكعيبية مثلاً؟ وهل لمن ادمن المغازي الدرامية العربية والهوليوودية أن يتحمل أفلام الشرق الاقصى التجريبية مثلاً من دون أن يمهد له الاطلاع والقراءة والتفكير السبيل إلى تجاوز رفضه الغريزي لما لم يتعوّده؟ أي أن رفض التنظير ليس أكثر من لجوء إلى السائد والمألوف في زمن معين، ونصبه حكماً بدعوى "طبيعيته" وتلقائيته والتلقي المباشر له، وهو ما كان بارت، إلى آخرين، حذّر من كونه قناعاً للطغيان الساري.تقتضي المناقشة في الواقع تجاوز الاستخفاف بـ"حسن ظن" هذا أو "سوء نية" ذاك، وتجاوز المواقف التخوينية أو الرافضة لـ"التنظير"، والتساؤل في العمق عن معاني تقديم الإنتاج الفني وعرضه على العالم، ما دمنا على هذه الحالة من الذعر ومن البحث السقيم عن "الموقف الوطني الصائب". لماذا نعرض بضاعتنا على العالم، سؤال ينبغي أن يرافق السؤال عما نعرض.
التوجه باسم لبنان
أحسب ان فيلم جريج وحاجي توما لا يتوجه إلى اللبنانيين، وبهذا فإن عرضه في لبنان كان الخطأ الأساسي. غير أن هذه ليست منقصة في حال من الأحوال، وليس فيها شبهة الزعم المريض بأن هذه الأعمال انما تهدف إلى ارضاء الغرب أو دغدغة غرائزه، التي نفترضها دوماً على شاكلة غرائز المراهقين العرب. الفيلم لا يتوجه إلى اللبنانيين، لكنه يتوجه باسمهم إلى الآخرين، لأن ما يحاوله ليس السؤال "عما تستطيع السينما أن تفعله في مواجهة الحرب"، فقد علمنا من قبل ان كل الفنون هشة أمام النيران وأن من الأجدى انقاذ القطط لا اللوحات في مثل هذه الحال. بل السؤال الذي يطرحه الفيلم هو: أي صورة ينبغي أن تكون للبنان في أعين العالم؟لذا فإن تصوير الركام أو الناس الدالفين إلى البيوت المهدمة، وإن لم يخل منه فيلم الثنائي اللبناني، لا يشكل عرضاً جديداً ولا اضافة إلى ما وقر في ذهن العالم عن لبنان، بلد الحرب والدمار واللبننة، وهو أصلاً لا يشكل إلا جزءاً، على اهميته، من حقيقة لبنان المتعددة الوجه والطبقة. الفيلم الاسرائيلي "فالس مع بشير" طرح اشكالية مماثلة، أي صورة يمكن ايجادها للبنان للتخلص من غياب الصورة أو من تشويهها الكابوسي من اثر الحرب عليه. وليس غريباً أن تتزايد في العالم الأفلام القائمة على لعبة المتخيل/ الوثائقي، حيث تمتزج الصناعة الفنية بعين الكاميرا، بحثاً عن انتاج صورة فنية تنتفض على سيل الصور التلفزيونية المتناسل بعضها من بعض حد الغثيان وفقدان الذاكرة الأبدي. في هذا المعنى فإن تشبيه فيلم حاجي توما وجريج بالريبورتاج التلفزيوني دليل على غياب أي فهم للتفاوت في معاني الصور وطرق بنائها وفق حاملها أو وسيطها الاعلامي.استقدم الثنائي اللبناني كاترين دونوف، لا بوصفها "ممثلة فرنسية تحمل هذا الاسم"، بل بوصفها تحديداً ايقونة السينما الفرنسية، والسينما عموماً، أي بوصفها السينما مجسّدةً. عين دونوف، التي لا تدمع، هي عين الكاميرا تحديداً، ولا يسع الكاميرا البكاء. أتت دونوف إلى الجنوب لترى، أي لتكون شاهدة، ولتري، أي لتوصل شهادتها إلى الآخرين، وليس إلى الشهداء وضحايا الحرب بالطبع. التعاطف والدمع ما كانا ليشكلا أكثر من موقف، محمود ربما، غير أنه غير فني في العمق، ولن يزيد على "قصائد" عبد الرحمن يوسف مثلاً شيئاً. ما كان مطلوباً منها كان أجلّ بكثير، أن تتحول إلى ريشة الرسام وعين المصور وعقل الصائغ ويد الجراح. كان يفترض بحضور كاترين دونوف، والحبكة الصغيرة للفيلم، أن يشكلا دعامة فقط لصورة تتجاوزهما ويريد مخرجا الفيلم ابرازها وعرضها على العالم، كي لا تظل النظرة إلى لبنان محكومة ببديهية الحرب والخراب ولا تظل عين الناظر إليه معشاة بالايديولوجيا تحديداً. قيل إن الناس لا يستطيعون النظر إلى الفاكهة كما كانت تفعل، بعدما قام سيزان برسمها على قماشته، وأحسب أن طموح من يخرج فيلماً عن لبنان ينبغي أن ينظر إلى هذا القول.
صور للبنان
في هذا الاطار يغدو من الممكن مناقشة عمل جريج وحاجي توما بمعزل عن الموقف المفترض (والفادح الخطأ) للأخيار والأشرار، وبمعزل عن البحث عن معانيه المفرغة وعن "تمثيل" كاترين دونوف التي أتت أصلاً لتكون حاملة للرؤية لا لتكون داخلها. في هذا الإطار، تغدو مشروعة مساءلة الثنائي عن مدة نجاحهما في انتاج صور بمثل القوة المطلوبة لمهمة تغيير نظرة العالم وتجاوز صور التلفزيون وبث وجود حقيقي للبنان في العالم لا تختزله الاحكام المسبقة، أي نجاحهما في انتاج صورة "فنية" لأن الفن وحده يستطيع خلخلة سيطرة الاحكام المسبقة على العالم.أحسب أن نجاحهما اقتصر على صورتين أو ثلاث، وليس هذا بالهيّن، فالشاعر، بحسب غوتفريد بن، يكتب عشرات الدواوين من أجل قصيدة أو اثنتين تبلغان مثل هذين القوة والاكتمال. "فالس مع بشير" نجح أيضاً، في اعتقادي، في انتاج صورتين: الشاب المغنّي على قمة الدبابة المجتاحة، وصورة النهاية حيث شكلت صدمة الانتقال من الرسم المتحرك إلى التصوير الوثائقي للامهات النادبات شحنة هائلة لهذه الصورة الأخيرة.في فيلم "بدي شوف"، الصورة الأولى، في ظني، كانت سنابل الجنوب المتمايلة، لا لجمال المنظر البصري فقط، بل لأن سياق الفيلم يوصل المشاهد إلى الربط بين هذه السنابل وهذه التلال الترابية والخضراء وبين ما يشكل الأرض اللبنانية. كرمى هذه السنابل وهذه الأرض، يغدو مفهوماً تحمل الخراب والقصف والركام والموت، لأن هذه هي الأرض، لا اسفلت المدن المفخخ بالحفر. صور الشهداء السابقة والمباني المتهدمة تغدو حينها حية في القلب لأننا نفهم أن هذه الأرض هي مثواهم. السنابل النابضة بالحياة هي التي تحتضن هؤلاء الموتى، مثلما يحتضن المشهد البحري المدينة وركام مبانيها. في هذا التكامل، الذي لا يدرك بصورة منفردة أو فوتوغرافية بل فقط عبر اطار الفيلم في مجمله، ينجح المخرجان في انتاج صورة للبنان كما يغاير المتوقع ويتضمنه ويتجاوزه، ويمنحان صلابة هائلة للأرض المعشوقة. الصورة الثانية، على الحدود. حيث يرفعان عن الأعين غشاوة النظرية القانونية وضجيج المطارات عن الحدود ونقاطها، كي يلامسا، جسدياً تقريباً، "الخط الأزرق" وما وراءه. لن تظل صورة الحدود عينها، أي مجرد فكرة نظرية، لمن أتاح له الفيلم لمسها. ها هنا منتهى لبنان، وما وراءه الجليل. وعلى الحدود جند وأسلاك، وليس من متظاهرين (كما امام بوابة فاطمة)، ولا لاجئين. مثلما أبرز "مرج الزهور" ذات يوم المناطق التي تقع خارج كل سيادة وحدّ، يبرز مشهد الحدود في الفيلم حدّ السيادة ومنظر الخطوط التي يتصارع عليها البشر.الصورة الثالثة، أخيراً، لربيع مروة يسترجع حواراً من "جميلة النهار"، بفرنسيته المتعثرة والتقريبية، وبالتماع السينما في عينيه. إنها صورة السينما عن نفسها، في مرآة ربيع. ليست اذاً صورة للبنان، في شكل مباشر، إلا أنها صورة لاناس منه، مشغوفين ومفتونين ومحبين. أليس هذا أجدى بكثير من صور التظاهرات الحاشدة للمقاتلين والأجساد المتصلبة؟ لنتذكر، في المقابل، صورة نظارات غوتشي في ساحات بيروت. هل سؤال الجدوى هو ما يبرر ضرورة مثل هذه الأعمال؟
عرض النفس على العالم
يشبّه البعض العولمة بمارد خرج من القمقم، وتحاول الدول اثر الأزمة الاقتصادية الأخيرة تقييده بتعزيمات اللسان واجهزة المراقبة. لكنها لا تقتصر على ذلك، بل هي ايضاً تسريع لعملية تلاقح المجتمعات وتوسيع لها، بما هي أيضاً الغاء للمسافات أمام الأموال، والمعارف، وبعض الإنتاجات، واحياناً بعض البشر. غير أن هذه العملية سابقة بكثير على العولمة نفسها بمفهومها الحديث، ولبنان معني بها مباشرة أياً يكن المعنى الذي نريد اضفاءه على هذا البلد. فهو لا يستطيع، مدى ومعيشة، الانفكاء على قرويته أو ضيعويته، أو تاريخه الضيق وقواسمه المشتركة المفقودة، بل لعل تجربة الهجرة، إلى الحرب، هي أكثر ما يتقاسمه اللبنانيون على تنوع مناطقهم ومذاهبهم. على خلاف مصر، ذات الأساس المكين، أو سوريا ذات المخيلة الامبراطورية، لا يسع لبنان سوى في استيهامات سعيد عقل أن يكون إلا رجراجاً ومتقلباً وباحثاً عن الخفة والتفلت من اسر الجغرافيا الثقيلة والانتماءات الضيقة نحو فضاءات أرحب. يعرض لبنان نفسه على العالم، ليس فقط بوصفه غواية أو طفلاً مدللاً أو جريحاً، بل أيضاً بوصفه، من خلال هذا العرض، يشدد أزر نفسه وثقته بكونه وطناً بين الأوطان ونداً لها.إن كان على الصعيد "الدولتي"، حيث سعى لبنان دوماً إلى المشاركة والمساهمة في معظم المعاهدات والمؤسسات الدولية، أو على صعيد الأفراد، حيث يسعى فنانوه وباحثوه إلى الوقوف صنواً لأقرانهم أياً تكن جنسياتهم من دون عقدة الدونية، تطل في هذه المساعي حاجة وجودية إلى الوقوف في ساحة العالم. تضاف إلى ذلك حاجة أخرى، في زمن العولمة الاعلامية تحديداً وسطوة الصورة التي قيل الكثير في نقدها، لكن من دون أن تفتر الحاجة إليها. فأن تكون يعني أن تُرى، كما أنت أو كما تريد، لا كمجرد شيء أو محمية طبيعية ومذهبية او سيرك أو أثر من الماضي. في هذا العصر الذي تهز فيه شؤون غير مادية (كمزاج المستهلكين، ونظرة السياح إلى مكان ما، وحتى المال الذي تجرد من ماديته، والشائعة... الخ) عروش بلدان مشيدة وعامرة، فإن ترك صورة لبنان لإعلام لاهث وراء الموت والخراب او الفضيحة لا يعني أكثر من ترك مصير البلد نفسه، الذي لا يملك اسسا أقوى من صورته، نهباً لجشع مصورين لا يعودون يتمايزون عن الصقور الجوارح.في شأن ما يعتمل في جوف المجتمعات العميق، وما يؤسس لغدها، يحتاج لبنان إلى السيطرة على صورته، تمهيداً للامساك بزمام قدره. إنتاج جوانا حاجي توما وخليل جريج ومن يشاطرهم عنايتهم بهذا البلد وبهذه الفنون، ونشاط من يسعى مثلهما لوصل لبنان بذكاء العالم وحساسيته، ضرورتان اذا شئنا المحافظة على مساحة من الهواء وتوسيعها، فالأجساد المتراصة والمخيلة الحربية لا تستجلبان سوى نتائج الحروب، أي الخراب العام والانتصار، أو وهم الانتصار، الخاص والأناني
ملحق النهار

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .