الخميس، 4 ديسمبر 2008

يوسف بزي: مكنسة عملاقة ازالت غبار المعارك

عن قريبنا محمد الذي هرّبه أهله من جنّتهم


1 ـ اختفى الشاب محمد من المنزل. إبن الثامنة عشرة الذي كان في حرب تموز 2006 مجرد تلميذ لطيف، يقضي معظم وقته في الضجر الريفي واللهو المدرسي، اختفى من بيته. والاهل الذين فاجأهم غيابه المباغت أدركوا سريعاً السبب، طالما انهم هناك في بنت جبيل كما في سائر القرى الجنوبية، باتوا يعلمون ويشهدون على نحو متواتر الى أين يذهب فتيانهم ويغيبون.أبناء القرى والبلدات، الذين يتوارون فجأة عن الانظار، ويتركون منازلهم في ساعات الفجر والناس نيام، يذهبون للانضواء في كنف «حزب الله» ملتحقين بمعسكراته التدريبية داخل لبنان وخارجه.لم يكن لاختفاء الشاب محمد مقدمات. فهو، حسب قول أهله، لم تبدُ عليه علامات التحول المعروفة للذين يتأثرون بأدبيات وسلوكيات مجتمع حزب الله. إذ ظلّ على تدينه التقليدي من غير الامتناع عن مصافحة النساء مثلاً أو إطلاق النكات غير المهذبة، أو الانغماس في ألعاب الكمبيوتر لساعات عدة، أو تزجية الوقت مع الشبان الآخرين في ساحة البلدة. ظل محمد كما عهدته أسرته في ملبسه، كأن يضع حوافي قميصه طي البنطلون لا فوقه، وظل أيضاً يحلق ذقنه ويستمتع بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية وأغاني الفيديو كليب العربية.لم يلحظ والداه فيه اهتماماً بالقراءة السياسية مثلاً أو متابعة دؤوبة للأخبار أو مثابرة على أنشطة حزبية. لم يجلب مثلاً أصدقاء جدداً الى بيته. لم تتغير لغته وانفعالاته وأفكاره كما يحدث عادة مع الذين ينضمون الى اي حزب، وحزب الله خصوصاً.ومحمد الذي عرفته في صيف الحرب قبل سنتين ونصف السنة يضع مقوّماً للأسنان، ضحوكاً مهذباً، ظل هكذا حتى يوم اختفائه المدبر، راحلاً من مراهقته الخجولة الى فتوة السلاح والاستعداد للحرب دفعة واحدة.يقول أهل البلدة ان الكثيرين من أقران محمد يلتحقون بأعداد متزايدة في صفوف قوات حزب الله العسكرية. وهو ما عاد التحاقاً حزبياً، انتقائياً، كما كان الامر في السابق. إذ لم يعد الانتساب الى حزب الله خياراً «عقلانياً» يعرّج فيه المنتسب في مسالك الشروط المتشددة والادلجة المتزمتة والتثقيف الصارم والالتزام المسلكي والديني والفكري، بل بات على ما يبدو مفتوحاً وعمومياً ـ إذا صح التعبير ـ ويلبي طموح حزب الله الى عسكرة أهل الجنوب وتعبئتهم من ناحية، كما يلبي رغبة هؤلاء الشباب العاطفية في ان يكونوا على مثال أبطال وبطولات حرب تموز 2006، وان يكونوا من «شعب النصر الالهي»، ما يترجم الاندماج شبه الكلي بين جسم حزب الله وجسم الطائفة الشيعية.وأسرة محمد البنت جبيلية المتعاطفة على الدوام مع حزب الله، والملتزمة بـ«تقليد» المرجعية السيد محمد حسين فضل الله في كل شؤونها وطقوسها، أصابها الفزع والسخط من قرار ابنها وفعلته. وبانتظار عودته، راح الاب يدبر «فيزا» سفر لابنه الى اميركا، حيث اخواته المتزوجات وأبناء عمومته وعماته وأقاربه الكثيرون الذين يعيشون إما في بروكلين أو نيوجرسي او ميشيغان. تدبير السفر هذا هو نفسه الذي لجأ إليه والده فيما مضى لـ«تهريب» الابن الاكبر علي، ليجنبه التجنيد الاجباري في صفوف الميليشيات المتعاملة مع اسرائيل قبل العام 2000.عاد محمد من الدورة التدريبية متفرغاً للعمل العسكري في صفوف حزب الله رافضاً ان يقبض راتبه الشهري (نحو 400 دولار) متبرعاً به لأيتام الحزب، معبراً بذلك عن حماسته وايمانه وعاطفته المستجدة. عاد الى بنت جبيل جاهزاً للقتال. لكنه لم يمكث طويلاً ولم تسنح له فرصة الاشتراك في معركة، إذ أجبرته العائلة على الرحيل الى اميركا (بلاد «الشيطان الاكبر»!) عاملاً هناك في محطة وقود يملكها احد الاقارب، حيث عليه ان «يبدأ في تكوين مستقبله» كما تقول والدته، التي لا تشاهد طول النهار والليل سوى محطة «المنار»
.2 ـفي الطريق الى الجنوب، تضاءلت الصور واليافطات الحزب اللهية، فيما لم يبقَ من الدمار العظيم والعميم سوى آثار متفرقة وقليلة. الجسور عادت منتصبة والطرقات معبدة، مزفتة، ومسحة الجدة طاغية على الاسفلت وحوافي الجسور وأعمدتها. لا ركام ولا بقايا قصف. كأن الحرب تم مسحها بخرقة هائلة عن سطح الجغرافيا. مكنسة عملاقة أزالت غبار المعارك، ولم يبقَ شيء منها سوى في الزوايا الضيقة من الأمكنة والأزقة المعتمة من النفوس، حيث لا يطالها النظر.تناقصت علامات الحرب وتناقصت معها ايضاً الرايات واليافطات والصور التي غمرت الجنوب بألوانها الصفراء والخضراء طوال اكثر من سنتين. وتبدى المشهد عن قرى وبلدات يظن المرء انها وجدت وشيدت وسكنت للتو لشدة حداثتها وجدتها. كأن الجنوب ارض بكر وفد عليها السكان الآن وبنوا بيوتهم عليها لأول مرة. انه انجاز مدوّخ بسرعته وقوته، فعلى قدر سرعة التدمير وفعاليته في صيف 2006، كان الترميم والتشييد. بل وكأن الخراب كان فرصة للتخلص من بقايا العمران الفقير والعشوائي والمتقشف، عدا عن التخلص من بقايا الهندسة الريفية القديمة، الفلاحية الطابع، طالما ان السخاء في التعويض، والبذخ الذي أبدته الجهات المانحة او الملتزمة بإعادة البناء، أديا الى بناء بيوت هي اقرب الى الفيلات الحديثة، وفق مواصفات لا تنقصها الفخامة والخطوط الحديثة والهندسة الرفيعة، التي توائم التصورات السياحية وشروط السكن الهانئ.يمكن القول ان حدثاً عمرانياً تحقق في الجنوب، اذ ان منازل القرى والبلدات كانت تبنى على الأغلب من غير تصميم هندسي ومن دون الاستعانة بمهندسين، وكان اصحابها يعمدون الى شراء ارخص مواد البناء وأقلها كلفة، بل ان الكثير من البيوت الباطونية كانت تترك من دون طلاء خارجي وتكون فيها مساحة الصالون مثلاً مساوية لمساحة المطبخ.. الخ.كان هذا هو الطابع العام الطاغي على العمران الجنوبي. ومن أجل التمايز والتشاوف والتدليل على الارتقاء الاقتصادي والمادي، كان المغتربون يعمدون الى بناء الفيلات، المبالغة في التذويق والتضخيم والزخرفة، على تلال القرى وعلى الروابي المشرفة على الطرق من أجل اظهارها واشهارها على العامة من السكان كعلامة لا تدحض على النجاح والثراء. بل كانت المبالغة في فخامة الفيلات غالباً ما تأتي من الذين اشتهروا بفقرهم المتوارث وعصاميتهم وكدحهم في بلاد الاغتراب، فكانوا يعمدون الى الاسراف في صرف جزء مهم من ثرواتهم الجديدة على بناء قصورهم وفيلاتهم، محواً لذاكرة فقرهم من أذهان السكان.كان هذا هو الحال قبل عام 2006، اما بعده، اي بعد الحرب، فقد نال أهل الجنوب وأصحاب البيوت المدمرة فرصة ليبنوا منازلهم الجديدة، مع توافر الأموال والمنح والتبرعات والرعاية من دول وجهات رسمية وحزبية، وفق افضل الشروط الهندسية وبأحسن المواد وباشراف معماريين ومقاولين محترفين.. ما جعل الجميع يشعر انه يقتني بيتاً فخماً، فيلا صغيرة أو كبيرة تليق بمجتمع ينعم بالرفاه والوفرة.هذا الحدث العمراني ليس فقط في نوعية البناء وطرازه، انما ايضاً في تحولاته الوظيفية. فالبيوت المسكونة هي التي شُيدت خارج القرى، اي على التلال والروابي والمرتفعات. اغلب السكان ما عادوا يودون السكن في نواة القرية وقلبها، بل باتوا يهجرونها الى حوافها العليا والى المطلات والقمم، فمنازلهم اصبحت للاصطياف والعطل أكثر مما هي للعيش والسكن.. والكل سواسية ولا فضل لمغترب على مقيم.ومن أثر حال «النهضة» العمرانية التي تولاها حزب الله وأدارها، وساهمت فيها دول عربية من غير تلكؤ او بخل، (عدا سورية التي لم تفِ بعد بما تعهدته في قريتين أو ثلاث)، ان اقتنع الناس او اقنعوا انفسهم بفكرة شائعة مفادها: ان الذي بذل كل هذا الجهد والمال لا يعقل أن يذهب بنا الى حرب جديدة، أو «لا يعقل أن يسبب خراباً جديداً»، وان حزب الله لا يريد ابداً الحرب مرة أخرى. وهم في الحاحهم على تكرار تلك الفكرة كأنهم يرفعون عن كواهلهم قلقاً لا يتزحزح لشدة ثقله وقوة ظله، كأنهم يطوون تحت كلامهم فكرة أخرى هي: «ما الذي يحول دون تكرار الحرب؟». وهم في أحاديثهم راحوا يساجلونني بأن اسرائيل «تعلمت درساً»، فأسألهم عن الدرس الذي تعلموه هم ايضاً، ليس فقط من جراء تجربتهم مع حزب الله، ومع الاحتلال الاسرائيلي، بل ايضاً مجمل الدروس السابقة منذ أيام «فتح لاند» و«الحركة الوطنية»، فيردون هكذا بأن السيد حسن نصرالله كان على حق في اعلانه «ان اسرائيل أوهى من بيت العنكبوت» وهكذا دواليك. انهم يخافون الحرب ويؤيدون «المقاومة» في آن واحد .. وإلى الأبد.
3 ـقالت عمتي إن علاج ضغط دمها المرتفع هو أن تتناول حبتي دواء وأن لا أظهر انا على التلفزيون منتقداً حزب الله. كانت بأسلوبها الحنون تبلغني استياءها من مواقفي السياسية المعلنة، فيما اظهر اهل البلدة تجاهي نوعاً من الجفاء، واقاربي قالوا ان الواحد منا «لا يخرج من جلده»، قاصدين انه لا يجوز لي ان اتبع هواي في الأفكار والسياسة بل يجب عليّ الالتزام بموقف مّتي. اما عمي فأخذني بحنكته الى زيارة ضريح ابي، وهناك طلب مني مرافقته الى «روضة الشهداء» (شهداء حرب 2006) المهيبة والوقورة، دلني وعرفني على كل شهيد ومكانته وسيرته. في طريق العودة قال لي فجأة انه لا يجوز انتقاد حزب الله والسيد حسن نصرالله، «إنه منزّه.. إنه برتبة القداسة»، أعلنها بنبرة هادئة وحاسمة. أما عن الخطأ في التقدير لما حدث في 12 تموز 2006 فساواه بخطأ التقدير للنبي المعصوم يوم معركة أُحد حين انهزم المسلمون. فسكتّ سكوت المستسلم بعيداً عن مسألة القناعة. أبلغني أن العائلة لا يسعها حمل وزر آرائي، ثم رجاني أن لا أتجول في ساحة بنت جبيل.مع كبايات الشاي المخمّر جيداً في ساعات العصر، يبدأ تبادل الأحاديث، حين يكتشف المرء كيف يميّز الناس في الجنوب بين حزب الله المقاومة وحزب الله في السياسة الداخلية، يقيمون فاصلاً بينهما. فهم يعزون لما حدث في 7 أيار الى «تعدي أهل الطريق الجديدة على الناس والمارة». هذه هي الخبرية الوحيدة التي لديهم عما جرى. أما أحداث هجوم حزب الله وحلفائه على بيروت فينسبونها (ولا نتبنى هنا كلامهم) الى «زعران حركة أمل وحزب البعث والقوميين» (بالحرف). إنهم يحذفون مشاركة حزب الله حذفاً كاملاً، بل وعند تناول التفاصيل في السياسة تراهم مثلاً لا يحبذون ما يبدر عن محمد رعد مثلاً، منتقين محمد فنيش بأنه هو الممثل الجيد لحزب الله. أسأل الجالسين، وهم من سكان الضاحية الجنوبية أيضاً، عن دكاكين التخابر الدولي فيؤكدون كثرتها ولا شرعيتها.. في معرض تناولنا لأسباب قرار الحكومة الذي أدى الى غزوة 7 أيار.أخبرهم أن الليلة سيبث فيلم محمد سويد «ما هتفت لغيرها» على قناة «العربية»، وهو يتناول خرافة تحويل لبنان الى «هانوي العرب» وكيف أن هانوي ما عادت تريد سوى أن تكون على مثال هونغ كونغ، وأن ما بين بيروت وهانوي هناك دبي. وأن خياراتنا بين الحرب والسلم وهونغ كونغ ودبي وهانوي الجديدة باتت عبارة عن فرص ضائعة.. فيجيبون إنهم لا يحضرون «العربية» ولا يطيقونها لأنها «تبث السموم».
4 ـفي الطريق، وضعوا صورة ضخمة لرئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري وكتبوا تحتها «يا ويلنا من بعدك يا دولة الرئيس». لم أعرف ما القصد من هذه الصرخة الملتاعة؟!!، هل هي الخوف المبكر من الآجال المحتومة لكل كائن بشري؟ هل هي إعلان اعتباطي أن الناس من دونه لن يدبروا شؤونهم ولن يكون لهم شوكة كما لديهم الآن بمعيته ورعايته، وأنهم من بعده سيكونون عاجزين ضائعين لا حول لهم ولا قوة؟ هل القصد إنه الآن يحميهم من شرور لا تحصى تحيط بهم وأنه هو وحده الذي يدرأها عنهم؟ هل هي صرخة قاصرين ما زالوا بحاجة لأبوة؟ لم أعرف على وجه الدقة سبب تلك العبارة الملتاعة، إلا بعد أن رأيت صورة أخرى للرئيس بري عند مدخل قرية ثانية كتب تحتها «هل من نظير»؟!!. وهو سؤال يضمر جوابه فيه «كلا، لا نظير». فأعجببتني جداً تلك الفكرة «لا نظير له».في الساعة الخامسة والنصف صباحاً، في طريق العودة، أدار السائق الراديو على «إذاعة النور» التابعة لحزب الله، والخبر الأول «نجاح كبير للمعارضة (8 آذار) في انتخابات المحامين»، ثم بعد نصف ساعة وعلى «إذاعة صوت لبنان» التابعة لحزب الكتائب، جاء الخبر «فوز الموالاة (14 آذار) بانتخابات المحامين». فضحكنا كلنا في السيارة. الخبر نفسه خبران، كل حسب إذاعته. وعليك أن تختار إذاعتك، فتختار أخبارك وتأنس إليها.كل جماعة معتصمة بأخبارها، أما الكذب فمن اختصاص الشعراء ومن يتبعهم من الغاوون.

عن نوافذ

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .