الأحد، 8 فبراير 2009

بلال خبيز: ماذا سنشتري بهذا الدم؟


الدم. يهرق في غزة، ويغلي في رام الله وبيروت والقاهرة. كان بارداً في دمشق، حتى خالد مشعل تأثر ببرودته فلم يملك نفسه عن اظهار نواحذه تبسماً وهو يضع شروطه على اسرائيل، التي من دون تحقيقها لن يعفيها من مغبة اهراق الدم الفلسطيني في غزة. في طهران كان ثمة دم يفور في صدور الذين صدقوا الحجة الرسمية، لكن خطبة السيد خامنئي على ارض مطار طهران تكفلت بتبريد الدم في الصدور. عادت طهران كعادتها كل شتاء، باردة وثمة ثلج كثير في انحائها.
لكنه الدم. حيث يغلي وحيث يفور وحيث يهدر، وحتى حيث يكون بارداً، هو السلاح الذي تدمن المقاومات على استخدامه. تدمن، بل تفرط في استخدامه. هذا الدم رخيص، لأنه يغلي ويهدأ من دون حجة. ولأنه يغلي في المرجل الخطأ احياناً. ولأن كل دماء الناس في كل العالم تقاس بالقطرات، إلا الدم الفلسطيني والعربي فيقاس بالشلالات. وما دمنا نملك كل هذا الفائض من الدماء، فربما يكون امر انفاقه فألاً حسناً. لقد انتصرنا. اهرقنا ما يكفي من دماء لتلويث وجه العالم. انتصرنا. مات الذين ماتوا وتشرد الذين تشردوا، لكننا انتصرنا. من يجرؤ على قول رأي غير هذا الرأي؟ لم يعد ثمة حائل دون انتصار الفلسطينيين إلا النظام المصري الذي يصر ويرفض فتح معبر رفح لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني. إذا كان فتح المعبر ارفع مرتبة من اهراق الدم، فليهرق الدم لأجل اقفاله، وليهرق لأجل فتحه. رحى تجز رؤوساً حين تنفتح وتجز رؤوساً حين تنغلق. وفي الحالين ثمة شعب يعصر تحت حجر الرحى الذي اسمه المعبر.
هذا الامر لا يتصل بالسياسة. السياسات في بلادنا، لم تعد، منذ زمن بعيد، تتصل بمفهوم السياسات. فالسياسات في بلادنا تتبع معادلة جائرة: لن نسمح للعدو بأن يتوقف عن قتلنا إلا إذا وافق على شروطنا. اعترافاً وتتويجاً. اعتراف بحق المختبئين من القصف الإسرائيلي في ان يقاوموا، وتتويج لمن يضع شروطاً على حقن الدم. لا يكتمل المشهد دون تتويج مهيب: لأجل تتويج خالد مشعل، الذي جلس عى كرسي الدوحة من دون صفة، فقط الاسم، ينبغي ان يفور الدم ويغلي ويهرق. خالد مشعل يعفي ايران وسوريا من فوران الدم، ليس لأن ايران وسوريا دافعتا دفاعاً ناجعاً عن الشعب الفلسطيني، بل لأنه يريد ذلك، اعترافاً بجميل الضيافة وخضوعاً لمشيئة رب العمل. تظن قيادة حماس ان في وسعها ان تعفي اي كان من الغضب او الشعور بالعجز. فقط لأن قيادة "حماس" تريد ذلك. كون المرء سورياً او ايرانيا في هذه اللحظة يسعد الكائن ويجعله يشعر بالامتلاء. لقد ادى واجبه كاملاً ولم يعد ثمة سبب ليفور بالغضب. قيادة "حماس" تعفيه من تبعات الغضب. ذلك ان الذي يجيز للناس ان يغضبوا او يهدأوا هو المعنى الذي يعطى للدم.
الدم الفلسطيني والعربي عموماً انواع متعددة. ثمة الدم الفلسطيني في سوريا وايران ولبنان، دم فلسطين هناك هو بوابة العبور إلى السعادة الأبدية، الشهيد تلو الشهيد يزفون سعداء إلى اعراسهم. وبدمائهم تنتصر القضية. لا حاجة للسوري او الإيراني ان يغضب، او ان يحزن، الذين يموتون، سعداء، لهم الحياة الأبدية.
وثمة الدم الفلسطيني في القاهرة وعمان. الدم هناك مغدور ومغرر به. تمت خيانته وينبغي القصاص ممن خانوه. هو الدم نفسه، لكنه يملك وجوهاً متعددة. المصري او الأردني لا يستطيع ان يتخفف من الغضب او من مسؤولية الدم البريء، لأن حركة "حماس" لم تجز له ان يتخفف منه. لذلك عليه ان يغضب وان يثور وان يفتح الشعب المصري معبر رفح بصدور ابنائه.
ايضاً ثمة الدم الفلسطيني في مدن العالم. هذا الدم مبتور وناقص. لا يحسب من ضمنه دم الرجال الراشدين. قناة "الجزيرة" بدأت في حمأة الحرب بالإحصاءات، مائة طفل وامرأة بين القتلى، مائتان، ثلاثة، هذا فقط ما يحسب حسابه، وهذا فقط ما يفترض بنا ان نحصيه. القناة ومن تنطق بلسانهم، لا يرون في موت الرجل الراشد عيباً، لأن دم الرجل الراشد لا يزن كثيراً في الحسابات. حسابات الذين يتباكون على الشعب الفلسطيني طبعاً. هؤلاء جميعاً لا يسمعون صرخة المرأة التي فقدت زوجها وبقيت تعيل اولادها وحيدة ومن دون معين. موت الزوج لا يؤلم غير اهل بيته. شكراً لصحافتنا التي اصبحت عالمية إلى حد انها باتت لا تأخذ حياة الرجال في حسبانها.
مع هذا كله، ليس ثمة من يريد ان يقفل صفحة هذه المقاومات. الدم ما زال رخيصاً إلى الحد الذي يجدر بنا ان نعتمده فيشاً على الطاولات الخضراء.
الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .