الخميس، 26 فبراير 2009

بلال خبيز: صالح بشير: من يعوض هذا الغياب؟



هل كتب صالح بشير مقالته لهذا الأسبوع؟ : "لو صاح الديك على هذه الكرة الأرضية لعرفنا، لكن الموت". الموت الذي يأتي مبكراً كعادته. لن نقرأ صالح بشير مرة اخرى على صفحات الصحف. لقد اخلى المكان لأناس قد يكتبون عنه. ومن سوء طالعي انني واحد منهم.
بموت صالح بشير تنقص الجدوى. لم يعد في وسعي ان انتظر مقالة الثلاثاء متيقناً من لذة القراءة. لقد غاب صالح بشير وبغيابه باتت اللذائذ اقل مما كانت من قبل. وهي كانت قليلة اصلاً. لكن نقص اللذائذ لا يكفي وصفاً لهذه الخسارة. فصالح بشير ككاتب متميز، كان واحداً من الذين يجهد الكاتب في كل مكان لضمهم إلى لائحة قرائه. الكاتب يكتب لمن هو اعلم منه وافقه، وصالح بشير كان اعلمنا وافقهنا. اقله، كان واحداً من الأعلام القلائل الذين يغادرون تباعاً من دون استئذان.
حين يكتب الحي عن الميت، جسداً، يخشى من المستقبل. الكتاب في الأصل ليسوا سوى تلامذة لكتاب آخرين. يقرأون لأنهم يجيدون ادعاء الصفتين : صفة القارئ وصفة الكاتب. مؤلم ان يغيب القارئ الذي هو صالح، انما ايضاً قد يكون غياب صالح الكاتب اشد ايلاماً. ومنذ اليوم عليّ ان اغادر اطمئناني كل ثلاثاء، وان ابدأ بالتفتيش وسط كومة قش الكلام السائر عن ابرة كاتب في وسعه ان يلكز اعصابي ويحرضني على الفكرة. غياب صالح بشير يترك الأسبوع ناقصاً نقصاً فادحاً، ويصعب ان نملأ هذا النقص كيفما اتفق.
لم اكن اعرف صالح بشير شخصياً. كانت العلاقة بيننا علاقة قارئين بكاتبين. كنت أقرأ صالح وحين اكتب افكر فيه قارئاً. والحال، حين يخسر ميزان الكتابة احدى كفتيه، تصبح الكتابة عصية وبالغة العسر. هذا الغياب لا يتصل بالحزن العميق والمباشر على رحيل الرجل الذي عرفته كاتباً. هذا الغياب يترك الأحياء حيارى، والأرجح اننا في غياب هذا الرجل نصبح اقل ثقة بما نقوله مما كنا من قبل. كما لو ان غياب صالح بشير يضعنا على حافة الاعتراف بأنانياتنا المرتفعة كقراء. ننتظر ان يكتب، ونريد ان نعجب بما يكتب، ولا نمهله او نرحمه او ندعه قليلاً ليرتاح. لهذا نحسب انه تركنا من دون استئذان، لنغالب الحيرة في غيابه.
يقولون ان الكاتب لا يموت، آثاره تبقى، ودوماً ثمة من يعيد قراءته بعد زمن. لكن الكتاب يعرفون جيداً ان خسارة واحد منهم تعني ان مستقبل الكاتب نفسه بات مهدداً. لا تستقيم كتابة من دون متلقين. ولا تصح كتابة عالية الشأن على ما كانت عليه كتابة صالح من دون ان تجعل الكتاب انفسه جمهوراً من القراء والمتلقين. صالح كان كاتبنا، نحن الكتاب، وكنا قراؤه. واليوم حين يغيب تفيض في الروح مشاعر الفقد العظيم. فبهذا الفقد افقد انا القارئ بعض صفتي كقارئ، وينقص الكلام الذي اكتبه قيمة كان يستمدها من تلك القراءة، مثلما يفقد الكلام الذي اكتبه ميزانه الدقيق الذي يجعلني اتهيب الكتابة وانا احسب ان صالح قد يقرأ ما اكتب.
وداعاً يا كاتبي. وداعاً يا قارئي. كان المنفى قبل غيابك اكثر اتساعاً مما هو عليه الآن. اليوم تكاد تتحول الامكنة كلها منفى، وتعجز المدن عن تصريف الوقت بما يجدي ويجعل العيش اكثر من مجرد مجاملات.
لقد عودتنا هذه البلاد ان نقطع العهود للشهداء. لكننا ابداً لم نقطع عهوداً لكتابنا الكبار ونفيهم حقوقهم. الكتابة تستمر ما فتئ الكلام مستمراً، هذا امر بديهي. انما يجدر بنا ان نفكر جدياً بأن نقطع عهداً لصالح بشير. ان نكمل ما بدأه ولم ينهه، كحال معظم الكتابة في كل مكان من العالم. ومعنى ان نكمل ما بدأه صالح يتصل اتصالاً مباشراً باجتراح الأفكار اللامعة، والاتسام بالنزاهة الفكرية التي جعلته دوماً واحداً من القلائل الذين يتجرأون على نقد انفسهم ومراجعة ما كانوا قد كتبوه بوصف الكتابة دوماً عمل ناقص ولا تتم إلا بانتهاء الزمان.
صالح بشير إلى جوار ربه. هذا يبعث على الحزن. لكننا ما ان ننفض الحزن عن كلماتنا وافكارنا، حتى نعاود سيرته في ما كان يكتب ونقتحم المواضع التي كان فيها يساجل ويناقش، ونجرب حياكة خيط الأفكار الذي كان قد انجز بعضه. لكننا مع هذا الجهد كله، لا احسب اننا نستطيع ان نعوض هذا الغياب.

نشرت المقالة في جردية الجريدة في الزاوية نفسها التي كان يكتبها صالح بشير

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .