الأربعاء، 18 فبراير 2009

عباس بيضون: هذا هو الشاعر










كنا خمسة. ذهبنا في دروب خمسة. لن أستمر في الحكاية، اليوم أجملنا وأفضلنا نام تحت الشجرة التي من ثلاثين عاماً يحدق فيها واستحال عليه أن يستيقظ. لقد كان فتياً والأشجار لا تؤذي، وغالباً ما كان يحيط نفسه بجدران أربعة. كان محمياً ولم نخف عليه. لكنه في موضعه غلبه نوم أصعب من السفر، وها هو مع جداره وشجرته واحد. لقد اكتملت اللوحة وهذا المكان الذي صنع بقوة الانزواء والتأمل والنظر المثابر غدا حقيقياً أكثر من أي مكان آخر. وحين يمر الغياب من هناك سيجد وجهاً، حين يقترب الصمت سيجد ما يساويه حين يمر العدم نفسه سيشف ويجد كلمة. ذلك أن الذي لم يسافر كثيراً ابتعد أكثر. كان الوضوح عذابه، الوضوح الذي يجعل النظر مساوياً للأشياء. الوضوح الذي لا تزيد الأشياء فيه بقدر ما تتضاءل وتنسحب. كانت الكلمات أشياءه ويفقد منها كل يوم. كان العالم بسيطاً وواضحاً كترسيمة عذاب. الخامس الذي لم يعد كان هو الشاعر. بسام حجار كان هو الشاعر. لقد لحق العالم إلى مربَّعهِ الأخير. تحت الحائط الذي يفصل بين كل شيء وكل شيء عاش كناسك. كان يصغي إلى الغياب يداعب الذكريات. إلى النسيان يمشي على آثار الغائبين. كان يصغي إلى الرمل وإلى الأطلال والمعاني المفقودة. بسام حجار كان يصغي إلى الكون يتدفق من ذلك الثقب. إلى المعاني تتولد بين الأغصان نفسها، إلى الأسرار وهي تتواتر من الظلال والضواحي، إلى النظرة التي لا تشبه أختها ولا تكون هي نفسها مرة ثانية. بسام حجار كان الشاعر. كان الشاعر، لأنه أقام حيث يجد، ولأنه لم يرهب الكلمات بل استأنسها، ولأنه أصغى ولم يخترع، ولأنه لم يسحر ما حوله بل نظر وأحب، ولأنه لم يبحث في أوقيانوسات وهمية بل استقبل ما حوله، ولأنه رأى أن السر هو حقاً في ما بين يديه وتحت بصره. لطالما أذهلني أن يكتب بسام ابنته ما كتب فمن له ابنة لا يحتاج إلى أن يتكلم في الأثير. من له قلب لا يحتاج إلى أن يجد الحب وراء الحدود، من هو شاعر لا يحتاج إلى أن يخترع. لطالما رأيت بسام وهو يكتب تماماً ما يريده. لم يكن الشعر هو الطيران ولم تكن الكلمات بجعات هاربة، ولم تكن القصيدة أعجوبة. المهم أننا نملك ما نقوله وبسام حجار كان مليئاً بالمعاني. كان الشعر موجوداً كعصب لا كأحبولة، كان الشعر هنا عارياً وبسيطاً ومكتملاً ولا يحتاج إلا إلى أقل كلام ليوجد، لا يحتاج إلا إلى شرارة وحيدة لينبض. بسام حجار كان الشاعر. الأعمق والأكثر ثقافة والأكثر دراية بأحابيل الفكر كان يقول كل ذلك بدون أن يقوله. كان يخفي عمقه كما يخفي سحره كما يخفي درايته ولا يبقى في النهاية إلا الأثر. تبقى في النهاية الهندسة الأخيرة لمخاض عسير. تبقى الخلاصات العذبة والهادئة لاحتدامات مطمورة. ما كان يبقى هو العذاب أنيساً ومستأنساً في هندسة كلامية. في أبسط الأشكال وأكثرها تماماً. في قلق يجد خطه وبصمته في سؤال يتظاهر بأنه جواب. في إيجاب جارح ومجروح. في قبول وشكر، ربما، معذبان. بسام حجار هو الشاعر. الصداقة تولي وجهها للغياب إذ الغياب واسع وكبير. إنها ثلاثون سنة ولن يتسع لها سوى البحر. الخمسة صاروا قوساً من كلمات خمس، أفقاً يبتلع الكلمات.


السفير

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .