الاثنين، 16 فبراير 2009

بلال خبيز: بيروت تنزف كلامها: هذه البلاد ستبقى

مؤخراً: خالد مشعل لا يريد وائل عصام في غزة. مجموعة من رجال امن "حماس" تحمل مراسل العربية وائل عصام من فندقه إلى معبر رفح وتأمره بالرحيل. قبل ذلك بأيام: مي شدياق تعلن توقفها عن العمل في المؤسسة اللبنانية للإرسال. لقد حوربت من زملائها كما قالت في حلقتها الأخيرة، لكنها ايضاً كانت مجروحة لأن احد الذين دعتهم لاستضافتها في البرنامج الذي تعده وتقدمه اقفل هاتفه قبل دقائق من بداية الحلقة. الصحافية وجدت نفسها امام مقاطعة حقيقية. فضلت ان تقفل الباب على نفسها.
منذ اسابيع: عمر حرقوص يتعرض لاعتداء بالضرب المبرح من قبل افراد في الحزب القومي ويبقى مرمياً على قارعة الطريق إلى ان ينقله المارة إلى المستشفى.
منذ شهور، مجموعة ظافرة تحرق مكاتب تلفزيون المستقبل في الروشة ببيروت، ثم ترفع اعلامها على المبنى.
في الأثناء مجموعة من تقنيي حزب الله العسكريين والإعلاميين تمنع العاملين في محطة تلفزيون المستقبل من البث، وتهددهم فيما لو استمروا في مزاولة عملهم كالمعتاد.
قبل ذلك وبعده، يتهم صحافيون بالعمالة، الذين يتهمونهم هم ايضاً صحافيون، بل بعضهم اصحاب صحف. بعضهم يهدد بالقتل وبعضهم يتم ترهيبه، وبعضهم يطرد من عمله، بحجة معاداته للعروبة، العزيزة على اصحاب صوت الذين لا صوت لهم. النتيجة: الكلمة تضمر في هذه البلاد. الكلمة تحاصر وتلاحق وتنتهك وتُحرّف.
لا بأس، ليس دم الصحافيين اغلى من دماء اطفال غزة ورجالها ونسائها، وليس دمهم اغلى من دماء اطفال لبنان ورجاله ونسائه. المسألة لا تتعلق بالدم. الدم يتساوى في عيون الجميع. بضعة ليترات في الجسم الحي، قد يكون حاملها وراعيها صحافياً وقد يكون نائباً في البرلمان وقد يكون زعيماً كبيراً.
ايضاً نحن على ابواب الذكرى الرابعة لاغتيال رفيق الحريري. الاسم يغني عن الكنية، اي كنية. مع رفيق الحريري كان باسل فليحان، الذي انتظرت روحه قليلاً في المستشفى الباريسي ليتسنى له ان يموت بصمت في ما بعد. كان جسمه يؤجل اللحظة الحاسمة لينقضي بعض الحزن والغضب الذي اعقب استشهاد رفيق الحريري. استشهد باسل فليحان متأخراً قليلاً عن رفيق دربه ومصيره. آثر الموت بصمت حتى لا يعكر صفوة الغضب الذي اجتاح بيروت. ومات في غمرة ذهولنا جميعاً عنه. باسل فليحان، ايضاً في وسعنا ان نعد الايام التي تفصلنا عن لحظة موته. وايضاً كان غالياً وثميناً إلى الحد الذي يحق لنا ان نحزن لغيابه طويلاً.
الذكرى الرابعة. بيروت ما زالت تنزف. بمحكمة دولية او من دونها، بيروت لا زالت تنزف. تنزف دماً وتنزف كلاماً مكتوباً وشفوياً. اقلامها تذوي بصمت وفي العتم، ومفوهوها يذهبون إلى صمتهم. لقد احتلت الشائعة محل الرأي، واقام الكذب في مقام الكلمة. وكلمة وراء كلمة تنزف بيروت روحها. القابضون على جمرها ما زالوا يقبضون على جمرها. لكنهم، كما افصحت مي شدياق، باتوا مقاطعين. لم يحدث في تاريخ اي بلد من بلاد العالم، ان قاطعت جمهرة الناس صانعي احيازها العامة. هذا يحصل في بيروت، وغزة ايضاً. وهو من العلامات الدالة قطعاً على تحول في الاجتماع اللبناني نحو اقترابه من افغنة ما. حيث يصبح اشهار الوجه جريمة، واقتراف الفنون جريمة، وابداء الرأي جريمة. يوم سقط نظام حركة طالبان وانهزم عن كابول العاصمة، احتفلت صحف العالم كله بمرأى نساء افغانيات منقبات يقرأن جريدة افغانية. كانت القراءة في الجريدة هي عنوان التحرر من نظام القرون الوسطى الذي فرضته طالبان على الافغانيين. تحرر من نظام القرون الوسطى؟ هذه تهمة اخرى تضاف إلى التهم التي قد يرشقنا بها الكتاب الذين يسلكون مسلك القراء. لكنه تحرر. فالتحرر من نظام القرون الوسطى لا يعطي القوات المتعددة الجنسيات اي ميزة في احتلال افغانستان. مع ذلك، تحسباً فلنضع التحرر بين هلالين. انما وللأمانة علينا ان نضع كل انواع التحرر بين هلالين. لماذا لبنان المحرر من الاحتلال الإسرائيلي ومن المرابطة السورية يضيق بالكلمة إلى هذا الحد؟ لماذا تنزف الكلمة فيه على هذا النحو المفزع؟ علينا ان نسأل المحررين والمحررين، بكسر الراء وفتحها على التوالي، كيف استطاعوا ان يحرروا البلد من الاحتلالات ومن قدرته على استنباط المعاني من الكلام؟ كيف اصبح المرضي عنهم ممن يدبجون المقالات هم فقط من يقسمون الناس بين عميل وشريف؟ لماذا لا يستطيع المنتصرون احتمال كلمة نقد واحدة؟
هذا ليس حباً بالنقد والانتقاد. هذا يقع في حب البلد واهله. فالبلاد لا تعيش ولا تبقى من دون الكلمة. والكلمة لم تكن يوماً مجرد لفظة مديح، ورغبة عارمة في تسمية المسيمات بغير اسمائها. كأن تصبح الهزيمة نصراً والعوز صموداً، والبطالة ثورة.
على اي حال، تمر ازمان على الكتاب يكتبون فيها للشجر المعمر في اعالي الجبال. تمر ازمان صعبة ينصرف فيها الناس عن اصحاب الرأي طلباً لسكينة الايمان. لكن البلاد لا تعيش من دون حيوية النقاش.
وائل عصام في غزة، مي شدياق في بيروت، عمر حرقوص وسمير قصير وجبران تويني. باسل فليحان ورفيق الحريري. يا اسماء كل الشهداء، الأحياء منهم والاموات. هذه البلاد ستبقى، ولو قلت الاشجار وضمرت الحيوانات، واصبح القمح نادراً.
موقع المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .