الاثنين، 16 فبراير 2009

صالح بشير: انسداد الموضوع الفلسطيني كما ارسته الدولة العبرية

«كلما قلنا لها جودي علينا، يقول الشاعر، خرجت بالصمت عن لا ونعم»... والصمت ذاك ليس بالمنزلة الثالثة إلا في وهم شاعرنا، بل هو يعني الرفض والامتناع، وإلا ما كتب بيته ذاك أو كتب شيئا يفيد الاحتفاء. قد يكون الكلام أعلاه مقدمة غير جادة، بل لاهية بعض الشيء، لموضوع ليس كذلك البتة، هو موضوع الشرق الأوسط وذلك الفلسطيني على وجه التخصيص والتحديد، وأما تلك التي «لا تجود» فهي، في هذه الحالة، الدولة العبرية، تلك التي بلغت بالنزاع طور الانسداد الكامل، فحصنت نفسها حيال احتماليه الممكنيْن أو اللذين يحسبهما خصومها متاحيْن تطوّرا أو مخرجا: التسوية أو المقاومة، فجعلتهما، معاً، يراوحان بين بالغ العسر ومبرم الاستحالة. أما التسوية فمعلوم أمرها، منذ اتفاقات أوسلو على الأقل، لم تألُ الدولة العبرية جهدا في إجهاضها، إمعانا في الاستيطان، في تحويل التجمعات السكانية الفلسطينية إلى معازل، في إقامة الجدار الفاصل، في الإجهاز على مقومات ومرافق الوجود الوطني الفلسطيني، كما حصل إبان «انتفاضة الأقصى»، حتى سجن ياسر عرفات ووفاته المريبة، وفي إنكار صفة «الشريك» ونفيها عن المقابل الفلسطيني، حتى آلت مفاوضات التسوية إلى ما آلت إليه: تفاوضا عقيما، يستقي مبرره من مجرد حصوله، لا ينشد جدوى ولا يعد بها. وأما المقاومة، حتى وإن تمثلت في صواريخ كتلك التي في حوزة حركة «حماس»، متواضعة التصويب وقد تُطلقُ ولا تصيب، فتبادرها الدولة العبرية بأقصى البطش، برد فعل من طبيعة إبادية، بحرب شاملة لا تبقي ولا تذر. ما ذلك بالجنون من قبلها أو لا يُعزى فقط إليه، ولكنه استراتيجية واعية ومقاربة إرادية باردة، هدفها جعل الإقدام على أي فعل مقاومة، مهما تضاءل واكتفى بالأدنى، أمرا باهظ التكلفة، رادعا للسبب ذاك إياه. ذلك ما شهدت به حرب غزة الأخيرة، وقبل ذلك العدوان على لبنان سنة 2006، حيث لم يكن استهداف المدنيين بأقصى الشراسة، والبنى التحتية بالتدمير الماحق، بالأمر العرضي والجانبي، بل لبّ تلك الحرب وغاية ما تريد بلوغه. ويبدو أن الدولة العبرية أصابت النجاح في إرساء ذلك الضرب من الردع، على ما دل، إحجام «حزب الله» عن نصرة فلسطينيي غزة بصواريخه وأسلحته، وفي ذلك ما يضفي نسبية بالغة، وبمفعول رجعي، على نصره «الإلهي» المدّعى. يمكن القول، والحالة هذه، أن الدولة العبرية قد «أغلقت» الموضوع الفلسطيني، وأحكمت إغلاقه، في وجه كل مسعى عربي، ونأت بها عنه، تسوويا مسالما كان ذلك المسعى أم عنيفا مقاوما. حكمت عليهما، معا، باللاجدوى أو هكذا تحسب ويزيّن لها واقع الحال الراهن. غير أن «الإغلاق» ذاك لا يعني «تحييد» الموضوع الفلسطيني، بل يعني الانفراد به انفرادا كاملا أو يكاد، يجعل الطرف المقابل غير قادر على الفعل فيه والتأثير في مجرياته، سواء توخى سبيل التفاوض أم جنح إلى الحرب، أي أنه سحبه من التداول العربي-الإسرائيلي، ليجعله شأنا إسرائيليا بحتا، تعالجه الدولة العبرية وفق ما ترتئيه وبمقتضى متطلبات هاجسها المستجدّ بيهودية الدولة، أي بنقائها الإثني، ما قد ينذر بتحولات سكانية كبرى، ستكون الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي لا يجب، للدّاعي ذاك (وإن لم يكن الوحيد)، أن تستقل، مضمارها ومسرحها. وبما أن الدولة العبرية قد نجحت، على ما يبدو، في إنجاز عملية «الانتزاع» تلك، انتزاع الموضوع الفلسطيني من حيز التداول بينها وبين الطرف المقابل، حربا أم سلما، فهي قد وضعت الجميع، «معتدلين» أو «كيانيين» من جهة و"مقاومين" أو «ممانعين» من جهة أخرى، أمام عجز متماثل متساوٍ. أما هؤلاء، فيؤخذ عليهم تحويلهم المقاومة إلى مجرد استدراج لعدوان، ساحق ماحق، لا قبل للشعوب بتحمل تبعاته الفتاكة، مجهض تاليا لكل فعل أو ذاك ما يرادُ منه. وأما أولئك، أي «المعتدلون»، فقد يكون أمرهم أنكى، إذ تقوم مقاربتهم، وبصرف النظر عن كل اعتبار متعلق بميزان القوة، على افتراضين يبدو أنهما خاطئان: أولهما ذلك القائل بأن المشروع الصهيوني قد أُنجز واكتمل بإيجاد الدولة و"الوطن القومي" لليهود وبتمكّنهما وجودا وأمنا، بحيث ينصرف الجهد إلى إيجاد حيّز وطني فلسطيني إلى جانبهما، والحال أن إسرائيل لا تزال ترى نفسها قيد الإنجاز لما لم يكتملْ، أقله في ما يتعلق بيهودية دولتها، وأن ذلك لا يمكنه أن يتحقق إلا على حساب الفلسطينيين. ثاني ذينك الافتراضين اللذين تتأسس عليهما المقاربة التسووية وتشترطهما، هو الذي مفاده توقع الاعتدال من الدولة العبرية ومن الحركة الصهيونية، وذلك ما يلوح منافيا لطبيعة هذه الأخيرة على نحو أصلي وجوهري، طالما أن التطرف لدى هذه الأخيرة ليس مجرد احتمال، أمر طارئ تمليه ظروف وملابسات بعينها، كما هي الحال بالنسبة إلى أي تيار آخر (اشتراكي أو قومي أو سواهما)، قد ينزع إلى التطرف أو قد لا ينزع، بل ان تطرفها صفة فيها تكوينية ملازمة، لأنها أداة تفعّلها وتحققها اللذين لم يُدركا إلا بتعنيف الواقع والانقلاب عليه انقلابا جذريا، سواء في ذلك واقع الشتات اليهودي الذي صير إلى تحويله إلى شعب على نحو إرادوي مرتدّ على تاريخ مديد، أو واقع المنطقة، اجتثاثا لشعب من شعوبها بالغ العنف حيال تاريخ تلك المنطقة وذلك الشعب. وفي ذلك ما قد يجعل من طلب اعتدال إسرائيلي، مقابل اعتدال عربي أو فلسطيني، شيئا لا يعدو أن يكون انخداعا أو من قبيله. لا شك أن حالة الانسداد تلك تتطلب مزيدا من تحليل، لكن ما يسعنا قوله إنها، إذ تبدت عجزا عربيا عن المبادرة الفاعلة في الشأن الفلسطيني إن بواسطة الحرب أو بواسطة التسوية، حولت «الخيارين» هذين إلى باعث انقسام واصطفاف داخليين، أهليين محلييْن، أو إقليميين شرق أوسطيين، فاعليْن أو يُتوسلان على تلك الصعد الداخلية، بأكثر من أي مفعول يمكن أن يُتوسم منهما على صعيد العلاقة مع إسرائيل، مواجهةً أم مهادنة. وهو ما تشهد حرب غزة، وما استثارته من تبادل للهجاء داخلي أو عربي ومن قمم وقمم مضادة، تقيم الحدود بين «المعسكرات» ولكنها لم تُجدِ في وقف العدوان الإسرائيلي، ناهيك عن نيل ما يفوقه ويتعداه. ولعل في ذلك ما من شأنه أن يحفز على إعادة طرح المسألة الإسرائيلية من أساسها وعلى البحث في سبل الخروج من ذلك الانسداد الذي أفلحت الدولة العبرية في إرسائه.
الحياة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .