الاثنين، 12 يناير 2009

حسن داوود: كأن الحرب لا ينهيها إلا عدد قتلاها

لا أعلم إن كان الموفد الثقافي الأوروبي، الذي قدم إلى لبنان في سياق التحضير للقاء حول الثقافة العربيّة المعاصرة سيعقد في بلده، قد حزم حقائبه وغادرنا. ثمّة من كان قد نصحه بأن لا يؤجّل ذلك أبدا، أي أن يترك بيروت من لحظة ما يقول له رجل الإستقبال في الفندق إنّ ما يحدث في غزّة بدأ بالإنتقال إلى لبنان؛ وأن يسافر على أيّ طائرة مغادرة، بصرف النظر عن وجهتها. في لقاء لي معه سألني إن كنت أقدّر أنّ شيئا ما سيحدث هنا، ظانّا أنّنا، لكثرة تمرّسنا بالحروب، بتنا نعرف إن كانت آتية إلينا، هكذا من دون حاجة إلى معلومات وصلتنا عنها. وكان في ذلك محقّا، إذ إنّنا نقيس احتمال حدوثها بدرجة الخوف المسيطر علينا. قلت له إنّني أشكّ في إمكان حدوثها هنا، ذاك اني لم أكن خائفا آنذاك، أي قبل يومين من إطلاق الصواريخ الأربعة على إسرائيل.ذاك أنّني، مثل كثيرين هنا غيري، لم أتمكّن من أن أجيد تلك اللعبة التي أكون أصغي منبهرا لأولئك الذين يبدأونها، حيث يروحون يتكلّمون مسمّين الدول والأحزاب والأطراف على اختلافها، جامعين بعضها إلى بعض ومفرّقين بعضها عن بعض حتّى يصلوا، في آخر تحليلهم، إلى أنّ الدولة الفلانيّة لها مصلحة في إشعالها هنا في لبنان. في أحيان أراني أفعل ما يفعلونه، لكنّني، وهذا ما يحدث لي على الدوام تقريبا، أخطئ في تفصيل ما لا أعرفه.. أو أنّني أكون قد أخطأت من البداية ثمّ أكملت من هناك، بانيا أخطاء على أخطاء لأصل، في نهاية تمريني ذاك إلى أنها (هي الحرب ) لن تصل إلى عندنا.لذلك رأيتني خائفا من أن يكون نصحي للمندوب الثقافي قد أبقاه هنا، حتّى صبيحة الصواريخ الأربعة تلك. ذاك أنّي، اعتمادا على درجة خوف الموظّفين، في تلك الصبيحة، قدّرت أنّها، هي الحرب، لا بدّ آتية. كانت إحدى الموظّفات تنظر إلى ساعة يدها كلّ دقيقتين مستعجلة مجيء يوم الأحد الذي يحين فيه سفر أولادها الثلاثة، الذين يعملون جميعهم خارج لبنان. وكانت هناك موظّفة أخرى جعلت تأتي من مكتبها لتسأل، كلّ دقيقتين أيضأ، إن كان قد حدث شيء جديد. أمّا الموظّف الرجل، ذاك الذي يدور على الطوابق مسلّما على الزملاء، بمزيج من حبّ الزمالة وبتكليف ربّما من الحزب الذي ينتسب إليه، فقال إنّهم ينصبون الصواريخ ويديرون ظهورهم إليها، هكذا متّهما ناصبيها بالإستخفاف بمصائر الناس. « أليس هو مع مقاومة إسرائيل عادة»، سألتُ الزميلة المنتظرة مجيء يوم الأحد، فنظرت إليّ بما يفيد أنّها منشغلة البال ولا يسعها أن تتكلّم في شيء. لدى الثلاثين شخصا أو الأربعين الذين التقيتهم في ذلك النهار كانت نسبة الخوف واحدة تقريبا وإن اختلفوا في تدبّرها. بعضهم كان يأخذها بالمزاح، لكن المزاح المبالغ الذي يقرب من أن يصير هستيرّيا، بعضهم كان يأخذها بالتحليل الذي يمكن أن يصل في نهايته إلى نتيجتين متناقضتين. بعض ثالث كان لا يطيق الكلام ولا المزاح. يوم الخميس ذاك كان يوم خوف عام، على غرار ما يُقال إضراب عام، لكن هذا ممّا يبعث على الحيرة أيضا، بل على أشدّ الحيرة ما دام أنّ آلافا منّا أعلنوا، بصوت هادر واحد، أنّهم سينتصرون لغزّة انتصار الشهداء.وهي، الحرب، بعد تلك الصواريخ الأربعة، بدت قريبة وهي توشك أن تشتعل في سرعة ما يشتعل عود ثقاب. بل هي، بعد ما قيل عن صواريخ إسرائيل الأربعة التي انطلقت إلكترونيّا ردّا على صواريخ الكاتيوشا الأربعة التي انطلقت من عندنا، هكذا من دون حاجة إلى جنديّ أو ضابط ليركّب إحداثيّاتها، أسرع اشتعالا من عود ثقاب. صواريخ أربعة فقط كانت ستعيدها، وهذه، فوق ذلك، صواريخ قديمة كما قال أحد الوزراء . ذاك أنّ الحرب عندنا، لتبدأ، لا تحتاج إلى أن تُقرع طبولها، كما أنّها لا تحتاج إلى أن يُسأل الذين سيتلقّونها إن كانوا راغبين في حصولها. ثمّ أن عدد المستعدّين لإشعالها كبير إلى حدّ أنّ حتّى أصغر هؤلاء يستطيع أن يصرّح، متدّلعا، أنّه لن يقول إن كان هو الذي نصب الصواريخ، هكذا محتفلا بنفسه ما دام أنّ وقته الذي ينتظره قد أزف.تلك الصواريخ الأربعة كانت ستصل إلى غايتها فيما لو أعقبتها أربعة أخرى. الحمد للّه على السلامة، قالت في الصباح التالي من كانت تنتظر يوم الأحد. بات يمكنها، بعد أن اطمأنّت إلى أنّ الحرب ستظلّ هناك، في غزّة أن تتفرّج على الصور التي يعرضها التلفزيون بتعاطف حقيقي مع الضحايا الذين لم تعد نشرات الأخبار تعيد إليها مَن سبق أن نقلت صوره منهم. لم تعد التلفزيونات تحتاج إلى ذلك بسبب الوفرة في أعداد القتلى، وذلك إلى حدّ أنّها، هي التلفزيونات، باتت تقصّر عن تصوير الكثيرين منهم. بات بإمكانها، هي التي لم تعد تستعجل انقضاء الساعات، أن تدير وجهها عن الشاشة التي أمامها، ان تقول عن المَشاهد التي أبعدت نظرها عنها إنّ هذا فظيع، وأن تقول كم هي متوحّشة إسرائيل. ذلك الغضب المطمئنّ باتت تستطيع أن تشترك فيه مع أولئك الذين تنقل التلفزيونات مشاهدهم أيضا، رافعين يافطات مندّدة بالجرائم وماشين، صامتين أو رافعين أصواتهم بالدعوة إلى الإنتقام، في البلاد التي تحبّها بعيدة. وفي أحيان لا تصلها الرسالة على النحو الذي يريده التلفزيون، كأن تخطر لها هولندا مثلا في الشريط الذي يصوّر متظاهري هولندا.وقد تقول شاتمة إسرائيل: 750 قتيلا يا كلاب، وذلك بغضب حقيقي وإن كان يُبقيها جالسة على مقعدها. فبالمقارنة مع ما كان ممكنا حدوثه، يمكن لغضبها هذا أن يكون ترفا ما كان لها أن تحظى به لو أنّ ما كان أخافها البارحة قد حصل . 750 قتيل يا كلاب، تقول في غضب حقيقي وحزن حقيقي أيضا، لكنّها، مع ذلك، ترى أنّ هذا العدد الكبير يبشّر بنهاية الحرب، أو إنّه يقترب من أن يكون كذلك. لقد علّمتها معايشاتها السابقة أنّ الحروب تكتفي بعدد من القتلى، وهي تنتهي حين تتمّهم. بل إنّ هناك من قال لها، في اليوم الرابع أو الخامس من هذه الحرب الأخيرة، إنّ الحرب لا توقفها إلاّ مجزرة تحدث، مسمّيا لها مجزرتي قانا ومجزرة مروحين. بعد يومين من ذلك سألت إن كانت مجزرة تلك التي حدثت في مدرسة الأونروا وقضى فيها 43 رجلا وامرأة وطفلا.
المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .