الثلاثاء، 6 يناير 2009

حسن خضر: من نحن: ديفيد ام غولياث؟



تحضرني، الآن، عبارة قالها دافيد غروسمان، في سجال جرى بيننا قبل سنوات: قلوبنا مصفحة. وإذا نظرنا إلى ما يحدث في غزة، ولغزة، على يد الإسرائيليين هذه الأيام، فلن نجد عبارة أفضل من تلك. فما من شيء يبرر هذا القدر من العنف، أو الاستخدام الـمفرط للقوة، كما تقول البلاغات الدبلوماسية، سوى عبادة للقوّة وصلت حد العُصاب.فلنتأمل، مثلاً، الهجمة الجوية الأولى على غزة، التي استغرقت ثلاث دقائق وأربعين ثانية، وشاركت فيها أكثر من خمسين طائرة من طراز (أف 16). هل يحتاج الهجوم على غزة، رغم كل مزاعم حماس، إلى كل هذا العدد من الطائرات، وهل توجد في غزة منشآت عسكرية، ومراكز قيادة، وأنظمة توجيه وسيطرة، ودفاعات جوية، تستحق كل هذا العناء؟الجواب: لا، بالتأكيد. فما حدث ويحدث يتمثل في تدمير منشآت وبنايات سكنية ومقرات إدارية، قليلة الشأن في تحديد النتيجة النهائية للـمعركة. وبالتالي، ثمة ما هو أبعد من تحقيق أهداف عسكرية ملـموسة. وما هو أبعد يتمثل في عرض واستعراض القوّة بطريقة بورنوغرافية تقريباً، ووسم وعي الـمقصوفين بميسم النار. وهذا يعني في الحالتين، تحويل سكّان مدنيين، تحكمهم ميليشيا، إلى وسيلة إيضاح لـمعنى حروب الجيل الرابع، وإلى حقل لتجارب وتجريب التكتيكات العسكرية والسياسية والنفسية، الخاصة بهذا النوع من الحروب.وبالرغم من قناعتي بأن الـمجتمع الإسرائيلي مريض، إلا أن تجليات الـمرض بالعنف والعدوان غالباً ما تستند إلى حسابات عقلانية. فلو أدرك الإسرائيليون، مثلاً، أن الاستعراض البورنوغرافي للعنف سيرتد عليهم بعنف أكبر، لكانت غريزة البقاء أقوى لديهم من إرادة البطش.ولكنهم يدركون، جيداً، أن الله حباهم بأعداء مثاليين، يكثرون من الصخب، والبلاغة، والضوضاء. ومع ذلك، يمكن تحويلهم في نهاية الأمر إلى أكياس للـملاكمة. وبالقدر نفسه، يدركون أن غريزة البقاء تحتم عليهم السهر على ترتيب وتأثيث الحلبة بما يمكنهم من الفوز، الذي لا يتأتى في جميع الأحوال دون دفع ضرائب سياسية واجتماعية، وتقديم تضحيات بشرية.ولعل فكرة الجلاّد الـمقدس تكمن في جذر هذه الـمعادلة. فلا القدر الـمتجلي للبروتستانت البيض في أميركا الشمالية، ولا وثاق إسحق في الـمخيال الجمعي للإسرائيليين، يصدر عمّا يناقض أو ينقض هذا الإدراك. يحتاج غولياث، دائماً، للاختباء خلف قناع ديفيد الصغير؛ لأن القوّة العارية لا تمكن الجلاّد من ادعاء القداسة، أو الشكوى من قسوة الأقدار.ومن عبث الأقدار (إذا ما استعرنا عبارة من قاموس الـمنفلوطي) أن ديفيد الصغير نفسه يصر على الاختباء خلف قناع غولياث، فيسهم من حيث لا يدري ولا يشاء في إنجاح الحيلة التنكرية للأخير، وتمكينه من ترتيب وتأثيث الحلبة بما يدري وما يشاء. فلـم يسبق للإسرائيليين أن شنوا حرباً في ظروف مواتية، كما يحدث الآن. الدول الكبرى والصغرى في العالـم إما توافق على الحرب، أو لا تعترض عليها، وفي أفضل الأحوال تطالب الإسرائيليين بالاقتصاد في استخدام القوّة.وفي العالـم العربي هناك من يوافق ضمنياً على الحرب، وهذا تطوّر جديد في موازين القوى في الشرق الأوسط، تجلت ملامحه الأولى قبل عامين في الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وتتجلى الآن في محاور معلنة وأخرى مضمرة لـمجابهة الـمشروع النووي والطموحات الإيرانية في الإقليم، مما استدعى، ضمن أمور أخرى، صعود الدور التركي، لخلق نوع من التوازن.لـم يكتمل نصاب الظروف الـمواتية نتيجة عطب أصاب الضمير في الإقليم والعالـم، أو حتى نتيجة شطارة الإسرائيليين، ونجاحهم في إقناع الآخرين بضرورة الحرب، بل اكتمل لأن ميليشيا حماس، لـم تُبق على حلفاء ولا أصدقاء للفلسطينيين شعباً وقضية، وفعلت كل ما من شأنه إقناع منْ لـم يقتنع بعد بأن الفلسطينيين هم، في الواقع، غولياث. وبالتالي فهم يحتاجون إلى تدبير أمرهم بالقوّة، لا بالحيلة، لأن الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي ليس صراعاً ضد الكولونيالية، بل جزء من خطة إلهية، فوق التاريخ والسياسة والاقتصاد والجغرافيا.بيد أن البراعة التي يبديها الناطقون باسم حماس، في الاستشهاد بالنصوص الدينية، للتدليل على انخراطهم في السردية الكبرى للخطة الإلهية، لا تتجلى في ممارساتهم السياسية، التي تنم عن فشل واضح في قراءة خارطة موازين القوى، والـمصالح السياسية والإستراتيجية في الـمنطقة. في الأيام الأخيرة قال ناطق باسم حماس: لن نتنازل عن الثوابت حتى وإن أبيدت غزة، ودعا آخر الفلسطينيين في الجليل والـمثلث إلى الانخراط في الحرب، بينما طالب ثالث الفلسطينيين في الضفة الغربية بانتفاضة ثالثة. وأقل ما يقال، هنا: إن هذا الكلام لا ينم عن إحساس بالـمسؤولية، أو عن حرص على حاضر ومستقبل الفلسطينيين شعباً وقضية. وفوق هذا وذاك، ومع هذا وذاك، ما العلاقة بين حرب تخوضها إسرائيل لتحسين شروط التهدئة، وتخوضها حماس للاعتراف بشرعية حكمها لغزة، بالثوابت، وحرب الجليل، وانتفاضة ثالثة في الضفة؟ مهما يكن من أمر، في هذه اللعبة التنكرية، التي يتظاهر فيها القوي، إلى حد الـمرض، بالدفاع عن النفس، والضعيف إلى حد استجداء الخبز، بالقوة الخارقة، يستمر الإسرائيليون في تطوير وتجريب تكتيكات حروب الجيل الرابع، في ظل ظروف أكثر من مواتية، وفي خلفية الـمشهد تخرج تظاهرات، وتنفجر حناجر، وتكثر في العالـم العربي مزايدات من جانب أطراف تعرف بأن النار لن تحرق أصابعها. رأينا هذه الـمشاهد من قبل في الحرب على العراق، وفي الحرب على لبنان. والنتيجة في جميع الأحوال واحدة: لا يدفع الثمن سوى شعوب تحوّلت إلى أكياس للـملاكمة.وإذا كان ثمة من كوميديا سوداء، فمن تجلياتها أن غولياث الـمزيّف يهدد غولياث الحقيقي بالويل والثبور وعظائم الأمور، معلناً أن نهاية إسرائيل أصبحت وشيكة، بينما يسدد الأخير إلى أجساد الفلسطينيين اللكمة تلو الأخرى، والطلعة الجوية تلو الأخرى، ويبكي.
عن الايام

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .