الجمعة، 16 يناير 2009

حسن خضر: قضاء وقطر

أغلب الأفكار التي تدور بين الناس تنجم عن القياس. في الكلام، مثلاً، عن مشاعر الغضب التي تعصف بالشارع العربي، وفي مشاهد الـمتظاهرين في عواصم عربية مختلفة، كما في دعوات الـمقاومين والـممانعين، وتحليلات الـمحللين، ثمة ما يشبه النصّ الغائب. والنص الغائب، هنا، أن الأنظمة العربية الصامتة، والـمتواطئة، والـمتخاذلة، ستفقد شرعيتها مع مرور الوقت؛ مما يعني فتح الباب أمام تحوّلات عميقة كتلك التي عصفت بالعالـم العربي بعد النكبة في العام 1948.وهذه التحليلات، والدعوات، والتكهنات، خاطئة على أكثر من صعيد. فالكلام عن الصمت والتواطؤ والتخاذل لا يصف الحقيقة بقدر ما يُسقط مشاعر الدعاة والـمتكلـمين على واقع، يحاولون صياغته لا كما هو، بل كما ينبغي أن يكون.لديّ تحفظات كثيرة على النظام الـمصري، ليس بسبب موقفه من الـمسألة الفلسطينية، بل بسبب ما ألحقه بمصر من كوارث. ومع ذلك، أعتقد بأن موقف مصر من الـمسألة الفلسطينية، في سياق الحرب الدائرة على غزة، صحيح ويصب في مصلحة فلسطين ومصر على حد سواء. وأعتقد، أيضا، بأن إلصاق صفات من نوع الصمت، والتواطؤ، والتخاذل بالـموقف الـمصري، يندرج في باب التشهير، ولا يصف الواقع من قريب أو بعيد، إلاّ إذا قبلنا بتحوّل مشيخة اسمها قطر إلى مخ للعالـم العربي، وأفردنا لـمصر دور العضلات. بمعنى أن الأولى تضع الإستراتيجية، وتعلن النفير العام، والثانية تتولى التنفيذ.موقف مصر من قضية الـمعبر يعني عدم اعترافها بشرعية استيلاء حماس، بالقوة، على غزة أولاً، ووقوفها ضد تحويل غزة إلى كيان منفصل بالـمعنى السياسي عن الضفة الغربية؛ مما يعني القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية ثانياً، والحيلولة دون وصول النفوذ الإيراني إلى حدودها ثالثاً، وحماية أمنها واستقرارها الـمهدد من جانب كيان للإخوان الـمسلـمين على حدودها رابعاً، والحيلولة دون توريطها في غزة، بطريقة تلحق الضرر بمعاهدة السلام مع إسرائيل خامساً.ولا يهم، في موقف كهذا، طريقة ترتيب الأولويات، بل وضعها في السياق العام للـمصلحة الـمصرية أولاً، والفلسطينية ثانياً. وفي الحالتين يصبح الكلام عن الصمت والتواطؤ والتخاذل مجرد بلاغة فارغة، وممارسة للتحريض.يُضاف إلى ما تقدّم، وما زلنا في سياق التعقيب على النص الغائب، أن التحوّلات التي شهدها العالـم العربي بعد النكبة في العام 1948، وقعت على خلفية الحرب الباردة، والصراع بين الأميركيين والسوفييت، وتضافرت مع، ونجمت عن، صراعات بين نخب اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة وأخرى تقليدية، تحاول التأقلـم مع عالـم ما بعد الحرب العالـمية الثانية. وفي هذا الصدد، كانت الـمسألة الفلسطينية مصدراً للشرعية بالـمعنى الأيديولوجي، لكن الصراع الحقيقي كان حول تعزيز سلطة وشرعية الدولة الـمركزية، وإنشاء كيانات وهويات ثقافية وسياسية مستقلة، ضمن حدود جغرافية، كانت اعتباطية أحياناً، لكنها اكتسبت قداسة وديمومة بفضل النخب الجديدة، التي أطاحت بالنخب التقليدية.هذا يفسر، ضمن أمور أخرى، فشل الوحدة الـمصرية ــ السورية، كما يفسر العداء اللاعقلاني، الذي وسم العلاقة بين جناحي البعث في سورية والعراق، وتفتت كيانات لـم تستقر فيها سلطة الدولة، وشاء حظها العاثر أن تكون على مفترق للطرق، بالـمعنى السياسي والأيديولوجي، كما هو الشأن بالنسبة للبنان.الـمهم أن واقع الحرب الباردة لـم يعد قائماً، وأن صراع النخب الاجتماعية على السلطة والثروة في العالـم العربي، قد انتقل إلى مرحلة جديدة، مغايرة لـما كان عليه الحال في عقدي الخمسينيات والستينيات.الصراع في شكله الحالي لا يدور حول إنشاء وتثبيت أركان الدولة الـمركزية (وهذا هو القاسم الـمشترك بين النخب الجديدة والتقليدية، بعد الحرب العالـمية الثانية) بل حول هوية الدولة؛ مما يعني في حالات كثيرة العمل على تفكيكها، وصياغتها من جديد. وفي الحالتين يصعب التمييز بين التفكيك والتفتيت، وبين إعادة الصياغة والتهديم. كما حدث في العراق بعد انهيار السلطة الـمركزية، وكما سيحدث إذا ضعفت السلطة الـمركزية في مصر، وسورية، والجزائر، واليمن، والـمغرب.القوى الساعية للاستيلاء على العالـم العربي (على مراكزه الحضرية والحضارية في الـمقام الأوّل) تعرف أن فرصتها الوحيدة للفوز تتمثل في تعميم الفوضى، وزعزعة استقرار الأنظمة القائمة، فإذا سقط النظام، سقطت الدولة، التي يمكن بعد الاستيلاء عليها إعادة إنشائها بطريقة جديدة، تنسجم مع مصلحة أمة فوق الجغرافيا والـمصالح والتاريخ اسمها الأمة الإسلامية. وبالتالي، فإن الـمصلحة العليا للدولة لا تدخل في حسابات هؤلاء، طالـما أن النظام يحول بينهم وبينها. وهذا، في التحليل الأخير، معنى عبارة أفلتت من الـمرشد العام للإخوان الـمسلـمين في مصر ذات يوم، وجاء فيها بالحرف الواحد: طز في مصر.شخصياً، أعتقد بأن مصر لن تخرج من دائرة الصراع العربي ــ الإسرائيلي، لأسباب لا تخص موقفها من القضية الفلسطينية، بل تخص أمنها ومصالحها القومية (كما قال محمد حسنين هيكل مؤخراً) وكما دلل جمال حمدان، أحد أفضل الأدمغة التي أنجبتها مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، منذ ثلاثة عقود مضت. ولكن، لن يحدث ذلك لأن حماس تريد الحصول على الشرعية بعد استيلائها على غزة، ولأن إيران في مجابهة مع الأميركيين بسبب برنامجها النووي، ولأن سورية تفاوض إسرائيل، وتحتاج إلى أوراق للضغط، ولن يحدث بالتأكيد بسبب دولة لا في العير ولا في النفير، من طراز قطر.وإذا كان ثمة من ضرورة للكلام عن تحوّلات عميقة، في ظل، وبعد، ما حدث ويحدث في غزة، ينبغي أن تكون حول قياس الأعمال بالنتائج: هل كانت هذه الحرب حتمية، وهل يستحق معبر رفح خمسة آلاف (حتى مساء أمس) ما بين قتيل وجريح. ألـم يكن الـمعبر مفتوحاً قبل استيلاء حماس على غزة، ألـم نكتشف حدود اللعبة والعنف الإسرائيليين من قبل، أم أن ما حدث ويحدث مجرد قضاء وقطر؟

الايام

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .