السبت، 31 يناير 2009

بلال خبيز: صناع المستقبل


رافق المراسلون الصحفيون، اثناء الحملة الأميركية على العراق، القوات الاميركية التي تتقدم على الأرض. وكانوا يبثون صوراً للتقدم البري الأميركي، مستخدمين اخر ما توصلت تكنولوجيا البث والتصوير إليه. انما، وعلى ما يذكر الجميع، كانت هذه الصور غبشة وغير واضحة المعالم. فكان الصحافيون امام خيارين: اما بث الصور الغبشة في لحظة وقوع الحدث، واما بث صور واضحة بعد حدوثه. وحيث ان شاشات التلفزيون تعشق البث المباشر اكثر مما تلقي بالاً للوضوح. اختار الصحافيون بث الصور لحظة وقوع الحدث.
في الجهة المقابلة لتلك الحرب. كان الصحافيون الذين اتخذوا من بغداد مقراً لهم، يبثون صوراً عالية الوضوح والنقاء لضحايا القصف الأميركي، لكن هذه الصور كانت قديمة وتكاد تبدو اوثق صلة بالماضي مما تتصل بالحاضر. ذلك ان اعلان الحرب على العراق كان يعني ان الموت العراقي بات تحصيلاً حاصلاً، وان بث صور الموتى اثناء الحرب ليس اكثر من تكرار لموت سابق، في العراق او في افغانستان او في اي مكان آخر.
كان الموت الذي يصور في العراق حدثاً يقع في الماضي، فيما بدت صور اطلاق الصواريخ الأميركية على المدن العراقية صوراً مستقبلية. وبكلام آخر، كانت تقينات التصوير العالية التي تبث صوراً مغبشة، تقترح علينا انها تستطيع التقاط صورة المستقبل: غبشة وغير واضحة المعالم، لكنها تقع في المستقبل تماماً.
لم ندر يومها اين توقع الصواريخ الاميركية ضحاياها وفي اي وقت. كان علينا ان ننتظر زمناً قصيراً حتى تموز - يوليو العام 2006، لندرك ان الصواريخ الاميركية التي اطلقت على العراق تركت ضحاياها في لبنان صيف ذلك العام، وفي غزة في بداية العام 2008.
في هاتين الحربين الأخيرتين، كان الجانبان يتصرفان كما لو ان موت المدنيين تحصيل حاصل. امر حدث في زمن سابق، ولا يحدث الآن، وان الصورة الوحيدة التي يجدر بالناس الانتباه إلى اهميتها هي صورة الأسلحة المتجددة وقدرة المقاتلين على ترويع المدنيين.
في هاتين الحربين كان ثمة عناية شديدة من الاطراف المتحاربة في نفي الموت عن الجنود والمقاتلين واخفاء الخسائر العسكرية، ومبالغة في ابراز حجم الضرر اللاحق بالمدنيين في كلا الجانبين. كان المقاتل من حزب الله او حركة "حماس" يستمر مقاتلاً ما فتئ حياً، لكنه ما ان يخر صريعأً حتى تتم نسبته إلى المدنيين. وفي الجانب الإسرائيلي، كان الأمر اشد ترويعاً، لقد بالغت اسرائيل طويلاً في حجم خسائرها من جراء صواريخ القسام وصورايخ حزب الله من قبل. وعمد سياسيوها إلى لف العالم مرات ومرات لشرح ظلامتهم الكبرى. بل ان نظام الدعاية الإسرائيلية اخترع ضرباً جديداً من خسائر الحرب، سماها اصابات الهلع. فأضيف الخائفون من القصف القليل إلى جموع المدنيين الذين يجرحون ويقتلون بفعل القصف الإسرائيلي. ولا شك ان المعادلة بالغة الجور على الفلسطينيين واللبنانيين في هذا المقام، حين يجمع الخائفون إلى الجرحى والمعوقين والذين فقدوا حيواتهم جراء تلك الحرب، ويعاملون على سوية واحدة. لكن هذا السلوك كان يعني في الجانبين امراً واحداً. كانت اسرائيل تريد التمثيل بالجسم اللبناني والفلسطيني لتكوي الذاكرتين اللبنانية والفلسطينية بأهوال الحرب وفظائعها، منعاً لأي حرب محتملة في المستقبل. وفي الجانب الآخر كان حزب الله وحركة "حماس" يريان في المجازر الإسرائيلية في لبنان وغزة اسباباً لادعاء النصر. بدليل ان البنية العسكرية لهاتين المقاومتين لم تتأثر بالهجوم. وان كل ما فعلته اسرائيل لم يكن إلا اعتداءً سافراً على المدنيين. والحجة في الجانبين كانت واحدة تقريباً. اسرائيل تدعي العجز عن حماية جرحى الخوف من صواريخ القسام، إلا عبر التمثيل بالجسم المدني الفلسطيني واللبناني. مما يضع مهمات الجيوش والمقاومة في الدولة الحديثة محط تساؤلات وتشكيك عميقين. إذ يفترض بالجيش ان يحمي المواطن من كل أذى مثلما يجدر بالمقاومة ان تحمي الشعب الذي تدافع عنه من كل اذى ايضاً. وعلى اساس النجاح في هذه الحماية تبنى مقاييس الهزيمة والنصر. لكن الجيش الإسرائيلي والمقاومتين في لبنان وفلسطين اعتمدوا المقاييس الخطأ في هاتين الحربين. حيث كان المبتغى والمطلوب شيطنة الطرف الآخر امام الرأي العام العالمي والمحلي في الوقت نفسه. وهو ما جعل المدنيين في كلا الجانبين من دون اي حماية على الإطلاق. ذلك ان الطرفين كانا يعتبران موت المدنيين حدثاً نافلاً وقديماً، وان الصواريخ التي تذهب إلى اهدافها هي ما يصنع المستقبل.

الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .