الثلاثاء، 6 يناير 2009

بلال خبيز: تجارة المجازر


منذ انقلاب حركة "حماس" على السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، والفلسطينيون في القطاع يعانون من حصارات متعددة. الفلسطينيون جميعاً واينما كانوا يعانون من حصارات خانقة، لكن فلسطينيي غزة في ظل حكم "حماس" غير المرغوب فيه من العالم كله، تقريباً، اصبحوا من دون بدائل من اي نوع. وارجح الظن ان قادة حركة "حماس" شعروا ان لا ضوء يلوح في نهاية نفق الحصار، فمن جهة اولى ثمة العدو الإسرائيلي حيث ينعدم الأمل في التفاهم معه، ومن جهة ثانية ثمة الجوار المصري الذي ما زال يصر على التعامل مع شرعية فلسطينية تحكم نصف حكم في الضفة الغربية، ويعترف بها العالم كله نصف اعتراف. ومع انهما اعتراف وحكم ناقصان في الضفة الغربية، إلا ان حركة حماس التي تحكم حكماً كاملاً وتفتقر افتقاراً حقيقياً لأي اعتراف بشرعية حكمها، وجدت ان نصف الحكم ونصف الاعتراف افضل من الحكم الكامل والاعتراف المفقود. وبصرف النظر عن سخونة الشعارات التي يطلقها قادتها، إلا ان ما يبدو ملحاً لها وحيوياً كحيوية المياه لمسافر في الصحراء، هو بالضبط شيء من الاعتراف بشرعية الحكم "الحمساوي". لهذا ربما كانت صواريخ القسام تنهال على المستوطنات الإسرائيلية في وقت كانت خطابات قادة الحركة تقصف السياسة المصرية بأعنف قذائفها اللفظية، وتحاول ما امكنها ان تقوض شرعية سلطة محمود عباس. ولم يفت الساسة المصريون والعرب عموماً ان "حماس" تستعد لتحويل اتجاه بندقيتها على نحو خبرته مصر جيداً في التعامل مع الأصوليين الذين خاضت مصر صراعات عنيفة في مواجهتهم منذ اغتيال الرئيس انور السادات على اقل تقدير.
اغتيل الرئيس المصري السابق على خلفية اتفاقية كمب ديفيد، لكن الإسلاميين الذين فتحوا مصاريع النيران والدماء في مصر طوال عقود حالكة، ما لبثوا ان نقلوا معركتهم من الحدود المصرية – الإسرائيلية، إلى مقاتلة الحاكم الظالم والذي لا يحكم بما انزل الشرع، ثم قتل السياح الأجانب، في مجازر مشهودة، وصولاً إلى اصلاء الاقباط المصريين اشد درجات العداوة واكثر النيران وهجاً. وعلى منوال هذه الحركات الأصولية الجهادية المصرية، تحاول حركة "حماس" اليوم حث خطاها. ذلك ان المدقق في السلوك الحماسي لا بد ان يلحظ ان التحضير للمعركة مع مصر قطع اشواطاً طويلة في الشهور القليلة الماضية. حيث تحول الحصار المفروض على قطاع غزة من مسؤولية اسرائيلية في الدرجة الأولى إلى مسؤولية مصرية، وفق مفهوم الحركة. ومارست حركة "حماس" كل ما تجيده من ضغوط لفك الحصار من الجهة المصرية وليس من الجهة الإسرائيلية او الفلسطينية. كانت الحركة تريد ان تكتسب شرعية الاعتراف المصري بها تمهيداً لاستكمال معركتها ضد سلطة محمود عباس في الضفة الغربية وليس ضد اسرائيل قطعاً.
مصر من جهتها تدرك ان التسليم بشرعية سلطة "حماس" في قطاع غزة ليس شأناً فلسطينياً بحتاً. فمثل هذا التسليم يعني في واقع الأمر ان مصر ستجد نفسها مضطرة ليس لتسليم مقاليد علاقتها بالفلسطينيين لسوريا فقط، بل ايضاً القبول بتدخل سوري في الشؤون المصرية الداخلية. والذين يعرفون طبائع التدخل السوري، ومصر تعرفه جيداً، يدركون ان القبول بهذه الشروط التي تضعها حركة "حماس" على رأس مطالبها، تعني في المقام الأول، ان الداخل المصري بات عصياً على التحكم فيه، وان مصر نفسها تحولت ساحة اخرى من الساحات التي تجيد سوريا اللعب فيها وعليها وبيعها وشرائها ساعة تشاء. والأرجح ان مصر التي دفعت غالياً في صراعها مع الحركات الإسلامية الجهادية لن تسلم اوراقها بالسهولة التي تظنها ايران وسوريا، رغم ان الدم الفلسطيني يصرخ فوق رؤوس الجميع، وفوق مصر بصورة خاصة.
تتهم حركة "حماس" وداعموها السلطة المصرية بأنها تستهين بالدم الفلسطيني ولا تبالي بجريانه. ذلك ان المطلوب من مصر وفق هذه المعادلة ليس اقل من الرضوخ للدم الفلسطيني النفيس. في وقت يتصرف قادة "حماس" كما لو انهم يمكلون وكالة شرعية والهية تعطيهم الحق المطلق بإراقة الدم الفلسطيني على الوجه الذي يريدون، وهم من يختارون من يعفون من موجباته ومن يريدون تحميله مسؤولية هذا الدم.
إذا كانت جريمة مصر انها ترفض فتح معبر رفح كيفما اتفق، وعلى هذه التهمة يتم تحميلها وزر الدم المراق، فما الذي يجعل "حماس" بريئة من دم الفلسطينيين ووهي من قرر انهاء اتفاق التهدئة وبادر إلى قصف المستوطنات؟ هذا سلوك اقل ما يقال فليه انه متاجرة بالدم، كما لو ان قادة حماس ورثوا الحق بإراقة الدم الفلسطيني كما يرث الابن املاك ابيه.
عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .