السبت، 31 يناير 2009

بلال خبيز: حين يصير الموت ماضينا تذوي الدولة ويصير الشهداء موتى




الماضي المصور المستقبل الغبش


رافق المصورون الصحافيون الاميركيون الدبابات الاميركية حين بدأت تقدمها داخل الأرض العراقية. هؤلاء كانوا يبثون صوراً عالية التقنية لكنها غير واضحة على الإطلاق، بسبب ظروف التقدم العسكري وزمنه وسرعته. لم يكن في وسع المصور الصحافي المرافق للقوات الاميركية ان يوازن بين المكان والزمان ليتسنى له ان ينتج صوراً واضحة المعالم. كانت الصور العالية التقنية هي الصور الأقل وضوحاً في هذه الحرب. فعلى النقيض من هذه الصور الغبشة والتي لا تبين فيها الوجوه والملامح والأماكن التي يتم التصوير فيها، والتي تستخدم لأجل بثها أعلى التقنيات كعباً واكثرها كلفة، كانت صور الضحايا العراقيين التي تبثها شبكات التلفزة العاملة في العراق يومذاك بالغة الوضوح والنقاء. وبسبب من وضوحها ونقائها امكن تكرارها من دون كلل. واضحة ونقية إلى حد ان عين الناظر تعجز عن التقاط كافة تفاصيلها دفعة واحدة. التكرار كان ضرورياً للقبض على المشهد، لجعل المشاهدين يظنون او يتخيلون ان هذه الصور بعض من ذكرياتهم. او على الأقل من كوابيسهم.
طرفا التصوير في هذه الحرب كانا على طرفي نقيض. من جهة ثمة وضوح كامل لصور الضحايا العاجزين. وضوح كان ينقصه المنطق الذي يجعل القوة الاميركية بهذه القسوة التي لا يقرها المنطق طبعاً، والغبش في صور القصف والتقدم الذي يرافق القوات الأميركية من دون اي أثر للضحايا. القوات الأميركية في هذه الصور كانت تقاتل وتتقدم كما لو انها تبني بناء لم تتضح ملامحه بعد، فيما كان المصورون الذين يصورون الضحية العراقية متيقنين من الموت والدمار لكنهم لا يملكون ان يعرفوا اي بنية ستعقب هذا الدمار، واي حياة ستولد من هذا الموت. كان الغبش هو الحد الذي يجعل الحرب استمراراً للسياسة على نحو لا شك فيه، اما الوضوح فكان الحد الذي يجعل الحرب ارهاباً على نحو غير مشكوك فيه ايضاً. بكلام آخر، كان الغبش الذي يقترحه القصف الأميركي غير واضح المعالم لكنه يملك كل وسائل اتصاله بالمستقبل، اما الوضوح العراقي فكان ينتمي إلى ماض ما. لا مستقبل له وهو لذلك بالغ الوضوح. موت وحسب. لطالما عرفنا ان الموت ماضينا الذي لا يملك حق الإقامة في الحاضر. الموت من الماضي لكن القوات الاميركية كانت تجعله موتاً مستقبلياً او موتاً سيستمر. هذا الوضوح لم يكن يملك غير هذه الرسالة: ثمة موت سيستمر بعد هذا الموت. وهو يقع على الحد الفاصل ين السياسة والإرهاب. القصف الأميركي وهو يهدم البيوت والأمل بالمستقبل على رؤوس الأفراد، الذين تحولوا افراداً تحت وطأة أحكام قانون الحرب، تحول إلى وعد بالولادة الجديدة، إلى وعد بالبناء، وعد بالمستقبل، لذلك يبدو غبشاً وغامضاً ككل مستقبل. لكن صورة الموت العراقي كانت صورة الماضي. صورة نقية وواضحة مثلما يفترض بصور الماضي ان تكون. هكذا تضافرت التكنولوجيا والقوة والقوانين في صنع صورة غبشة للمستقبل. لكن العراقيين وهم يموتون كانوا يدركون ان حكمهم صار من الماضي، وان النتيجة واضحة من قبل ان تستقر على سمت محدد. فقط ثمة الكثيرين الذين ازهقت ارواحهم عياناً في حرب محسومة النتائج من قبل نشوبها.

الصورة والإرهاب
خلاصة هذا الهامش الطويل تتعلق بمنطق الصورة. لن تظهر الصورة فقيراً إلا إذا كان فقره مشهوداً وله ماض. الصورة في وجه من وجوهها وثيقة الصلة بالإرهاب. فلا يستقيم ارهاب حديث من دون صور. إذ عليه ان ينجح في دفع المصورين إلى انتاج الصور. سواء تعلق الأمر ببرجي نيويورك او بذبح نيكولاس بيرغ. لكن الصلة الوثيقة بين الإرهاب والصورة لا تتعلق بهذا الأمر فقط. بل بتعلقهما معاً وجميعاً بالماضي. الماضي الواضح المعالم. اي ما قبل الدخول الأميركي إلى الخليج، ما قبل احتلال العراق، ما قبل احتلال افغانستان. الخ... تماماً مثلما تكون صورة الميت هي صورته ما قبل الدفن وصورة المحكوم هي صورته ما قبل الموت. اي اننا منذ ان نشاهد الصورة يكون الحدث قد اصبح من الماضي. هل في وسعنا ان ننتج صورة ما تعلن انها صورة لما بعد. الأميركيون اقترحوا علينا مثل هذه الصورة في تلك الحرب. صور الدبابات الاميركية وهي تقصف وتتقدم في العراق كانت إلى حد بعيد تشبه قراءة ابراج الحظ. احتمالات غائمة وقسمة بين خير وشر وتفريق بين حزن وفرح، على نحو ما كان عليه خطاب الرئيس الأميركي الانجيلي الرسولي المفرق بين الخير والشر، لكنها دوماً حبلى بالاحتمالات. لن نتأكد إذا كانت الصورة قد تم أخذها في الرمادي ام في الناصرية، ولن نعرف إذا كانت الدبابة تابعة للفرقة العاشرة ام الحادية عشرة، ولن نعرف حكماً إذا كان سيعقب الموت العراقي سلم واطمئنان ام لا. لكننا نعرف بالتأكيد ان ثمة ما يعقب هذا الموت حتى لو كان موتاً أشد وقعاً.

الموت الذي يشهد عليه غيرك هو كارثتك المحققة
إثر زلزلال تسونامي الذي ضرب شرق اسيا، كتبت للفنانة الماليزية ناديا بحمدحاج التي تعمل وتعيش بين اندونيسيا وماليزيا اسألها عن احوالها بعد الطوفان. الاستعارة ليست باهظة في هذا المجال. تسونامي كان طوفاناً توراتياً من دون جدال.
اجابت بقدر كبير من التواطؤ: "ها نحن نراقب احوالنا على شاشة الCNN". الناجون من الطوفان بلا ذاكرة. او هم على الأرجح لا يستطيعون حصر الأحداث في ذاكرتهم. ضحايا كثيرون سيتم نسيانهم عمداً. لأن ليس في الذاكرة متسع لكل هذا الهول. واماكن كثيرة سيتم نسيان اصلها. الامر يحتاج منا إلى تضافر ذاكرات حميمة تعمل معاً ليتسنى لها ان تعيد تشكيل ملامح المكان. في بعض الأحيان كما في بولونيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتم الاعتماد على ذاكرة الفنانين. على اعمالهم الفنية التي رسموها للمدن ليتم اعادة اعمارها اشبه ما يكون بما كانت عليه. ليس هذا الضرب من الإعمار مهماً في حد ذاته عمرانياً. كأنما الكارثة التي تعقب حرباً ما هي فرصة المهندسين ليبنوا صروح الذاكرة. البيوت والشوارع لم تعد هي البيوت والشوارع. انها صورة لما يمكن ان نسميه ذاكرة جماعية. عمل يستهدف حث الأحياء على التذكر. ويقام كشاهد إثبات لما فشلوا في تذكره. الأمر أشبه بصناعة محثات على التذكر. سيمر المرء في المدينة المعاد اعمارها. كل شيء هناك معد لينجح في ان يتذكر. يتذكر عيشه وخيباته وسروره وخفته، لكنه وفي صورة اساسية يتذكر جرائمه: يصبح اعمار المدن لايزيد كثيراً عن عملية اعادة تشكيل المسرح وتمثيل الجريمة. - قانوناً يعتبر اعادة تمثيل الجريمة إثباتاً على صحة الاعتراف. لا يمثل القاتل جريمته إلا بعد اعترافه باقترافها. اي ليؤكد انه كان واعياً ومدركاً لما يفعل. لهذا ينبغي انزال العقوبة فيه - على هذا تبدو المدن المعاد إعمارها على صورة ما كانت عليه قبل الحروب والدمار هماً سلطوياً يريد الإثبات ان التدمير انما كان بفعل مدبر ومدروس ولم يكن عشوائياً مثلما يفترض بالكوارث الطبيعية ان تسلك في مسالكها. تسونامي كان عشوائياً بهذا المعنى. لم يكن مدروساً لأنه لم يقم اي اعتبار لهويات الضحايا واماكن تواجدهم. كان يزيح كل ما يعترض طريقه من غير تمييز. لهذا تراقب ناديا بحمدحاج احوالها على شاشة الCNN. ليس في وسعها التذكر تماماً، فالذاكرة شخصية وانتقائية. وليس في وسع المتذكر ان يعد مسحاً شاملاً لكل ما تم اخفاء أثره. ثم والأهم من هذا كله، ليس ثمة آلة عسكرية يمكنها ان تعيد تمثيل الجريمة في بلد آخر كما هي الحال في ما كانت عليه الحرب في العراق. صور القصف الأميركي في العراق تمثيل لجريمة وقعت في العراق واخرى ستقع في لبنان صيف العام 2006. لهذا تبدو الصورة من المستقبل أكثر منها في الماضي. صورة تهديد ووعيد اكثر منها صورة بث واقعي. تماماً مثلما هي حال الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالميين في نيويورك. في هذه الصورة اجتمعت واتحدت على نحو مرعب وفظ صورة الماضي والمستقبل، مما جعل التعالق بين الزمنين ثقيل الوطأة ولا يمكن لأي كائن على الكرة الأرضية ان ينجو من آثاره السيئة. من جهة كانت الطائرات التي اصطدمت بالبرجين تنبئ انها صورة مستقبلية ومن جهة اخرى كان الانهيار ينبئ ان شيئاً ما تم دفنه مع ما دفن تحت الانقاض. وجدنا انفسنا حيال هذه الصورة امام مهمتين متناقضتين على نحو فادح ولا يمكن احتماله، مهمة تذكر ما كان الامر عليه قبل الحادي عشر من أيلول، ومهمة توقع ما سيكون الامر عليه بعد هذا التاريخ. الماضي الرغد والهانئ والمستقبل الذي يبشر بكل انواع الدمار. آلة الدمار وضحيتها تختلطان وتمتزجان وتشكلان لحظة واحدة كارثية وقيامية كما يجدر بالكارثة ان تكون. لحظة لا تقع في زمن محدد، لا يمكن حساب ثوانيها ودقائقها، وبمعنى من المعاني لم يكن بإمكان العالم ان يستقبل القلق والحزن في لحظة واحدة، وان يتابع سيره كما لو ان شيئاً لم يكن.

احكام السيطرة على المستقبل
تكررت في لبنان هذه المعادلة في وجه من الوجوه. كانت صور الطائرات المغيرة وصور الدبابات في الحقول تنبئ بما يمكن ان يكون عليه مستقبلنا بالضبط. صورة واضحة، ذلك انها اكتسبت وضوحها من حرب العراق الآنفة الذكر، لكنها لشدة وضوحها اجبرت خصمها على اخفاء أي اثر لها. في لبنان كانت الجريمة نفسها تقع في المستقبل.
في بداية الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان، لم يكن ثمة الكثير من الصور التي تصدر من خلف ظهر القاتل. كان ثمة فقط صور للدمار والموت الذي يحيق بلبنان. وعلى نحو يبدو، لقراءة مسطحة وسريعة، غير منطقي وغير مفهوم، لم تكن القيادة الإسرائيلية تستثمر امر تعرض مدنها الشمالية لقصف حزب الله على نحو يدين هذا الحزب ويجعله في نظر الرأي العام العالمي قاتلاً متوحشاً. كانت اسرائيل تخفي وتنكر امر وقوعها في موقع الضحية. ذلك ان الوقوع في هذا الموقع له مترتبات على المستقبل لا يمكن ضبطها. لكننا في لبنان كنا عرضة لكاميرات الصحافيين الذين جذبتهم رائحة الدم والبارود كما تنجذب لمثل هذه الرائحة النسور القمامة. كنا في موقع الضحية في اصل الحرب: في مبتداها ومنتهاها، ولم نجد بداً من البقاء في هذا الموقع. حزب الله في هذه الحرب اخفى خسائره طبعاً، واحالها على المدنيين. كان حزب الله يتهرب طوال هذه الحرب، ولدواع تتعلق بطبيعة المعركة، من تحديد خسائره على نحو دقيق. كان يريد ايضاً ان يظهر بمظهر صانع المستقبل لجمهور اعدائه، ولتحقيق هذا الامر قام بخطوتين حاسمتين. حزب الله ايضاً تصرف مع السكان في شمال اسرائيل بوصفه قادراً على صناعة مستقبلهم وتحديد معالمه فأطلق صواريخه على المدن والقرى في الشمال الإسرائيلي وادعى، ونجح في تحقيق ادعائه، بأنه يستطيع ان يتحكم، اقله جزئياً، بمستقبل هؤلاء. ومن ناحية ثانية اخفى حزب الله خسائره بالإنفصال القاطع عن الإجتماع الذي يصدر عنه، حيث لم يكن يحق للعدد الاكبر من مقاتليه ان يكونوا مقاتلين في الموت والحياة معاً وفي آن واحد. كان المقاتل يبقى مقاتلاً ما فتئ حياً لكنه ما ان يموت حتى يعود إلى اهله. الاهل الذين يتحكم بمستقبلهم وما سيكون عليه غدهم جيش محارب من الجهة الاخرى من الحدود.

الشهادة على الموت او التغذي على الجثث
في ايام الحرب الأولى وحين كان الاحتلال الجوي في بداياته. كان صحافيو الفضائيات والقنوات المحلية والعالمية يبثون صور القصف والدمار والمجازر من اماكنها مباشرة. كانت المجازر تجتذب الكاميرات، فالطائرات المغيرة سرعان ما تدل الكاميرات على المكان الذي ينبغي تصويره. وكان الصحافيون يبثون من لبنان، صور الموت الواضحة والنقية كما كان شأنهم في حربي العراق. لكن استمرار القصف والتهجير وقطع الطرقات وتدمير الجسور منع الصحافيين من متابعة ما يجري في تلك القرى. هجر معظم السكان كما هو معلوم، وراحت الطائرات تنشر الدمار والركام في كل مكان. لم يكن احد في ايام الحرب الاخيرة يعرف ما الذي يجري بالضبط. كانت جريمة من دون شهود. وكان يجب على اللبنانيين ان ينتظروا وقف النار ليتسنى لهم ان يتحسسوا جروحهم. اعني الأحياء منهم. في مدينة صور دفن اكثر من 84 مقتولاً في حديقة المستشفى الخلفية كوديعة في انتظار وقف النار وتشييع الشهداء في مراسم تعيدهم إلى مدافن قراهم حيث ولدوا وحيث ينتمون. كان الموت مؤجلاً. لكن البكاء ايضاً كان مؤجلاً. كان على الامهات والأخوة والأخوات والأحباء ان يؤجلوا البكاء حتى تنتهي الحرب. فالبكاء في اصله ومعناه، هو الاستعداد لتوديع الميت العزيز، إدارة الظهر له والشروع في طقوس عيش مستأنف من حيث انقطع. البكاء لم يكن متاحاً للبنانيين تحت القصف، كان عليهم ان ينتظروا فراغ آلة الدمار من عملها ليحق لهم بالبكاء. لكن الدمع المعطل وهو وظيفة العين الثانية لم يكن وحده ما يجعل العين، عين اللبناني، مطفأة. لم يكن النظر ايضاً متاحاً للبنانيين. كانت الطائرات تقصف وتقتل في قفر مجهول لا يدركه النظر، وكان على الطائرات ان تنجز مهمتها على اكمل وجه. فتعيد العائدين إلى مكان غير الذي كانوا فيه. لا يعاد إعماره على النحو الذي كان عليه حتى لو اجتهد المواطنون في تحقيق ذلك. ستتغير الالوان وتنمحي الذاكرات وتغسل اللحظات الحميمة بالنار والرماد. سقطت هذه البيوت من دون تأريخ لسقوطها. سقطت من دون شهود. كما لو ان الأرض انشقت وابتلعتها في هوة سحيقة لا تستطيع الذكريات ان تطاولها.




النجاة بوصفه كارثة
الكاميرات في لبنان كانت تراقب الناجين، النازحون الذين ينتظرون الموجة القاتلة ويهربون امامها. الكاميرات تراقب الناجين، كما لو ان الموجة القاتلة التي ضربت لبنان منعت الشهود من ان يشهدوا ومنعت القتلى من ان يتحولوا شهداء.
ان تلجأ الكاميرات في نهاية الحرب إلى ملاحقة الناجين امر له دلالاته الكثيفة على مستويات عديدة. من جهة اولى كنا امام انجاز هائل حققته اسرائيل في جعل البلد برمته، على الأقل طوال زمن الحرب، يشبه باخرة في محيط هائج. الموتى من البحارة يرمون في البحر حيث لا قبور ولا شواهد، وليس ثمة من يزور القبر ويبكي عليه. وواقعة ان البحر مثلما تظهر صور احد الفنانين اللبنانين الشباب هو مكان ضيق ويمكن اختصاره بكلمة واحدة: البحر، ذلك انه دائماً يعيد تكرار المشهد نفسه والصوت نفسه على غير انقطاع. هذه الواقعة التي تختصر البحر باسمه تجعل من وجه الشبه بين لبنان اثناء الحرب وبحره مدعاة للأسى والشجن. ان يصبح لبنان بحراً تحت عسف الطائرات، يعني ان لا ننجح في التعرف إلى قبور موتانا ولا في وسم المكان الذي نعيش فيه بميسم الوطن. الوطن اولاً وآخراً له تاريخ ومعالم.

استعصاء الشهادة وإعادة تمثيلها
من جهة ثانية كان تأجيل الموت والبكاء حتى نهاية الحرب يجعل من اللبنانيين عموماً غير قادرين على الشهادة على موت شهدائهم. اسرائيل في هذه الحرب ارادت بمعنى من المعاني ان تمنعنا من ان نشهد على شهدائنا، وجعلت كل قتلانا موتى وحسب. كان علينا ان نعيد تمثيل الشهادة بعد زمن ليتسنى لنا ان نقول مرة اخرى ان هؤلاء الذين ماتوا على جوانب الطرقات شهداؤنا واننا شهدنا عليهم وهم يموتون دون رأيهم وارضهم وايمانهم.
من جهة ثالثة كانت الحرب الإسرائيلية وهي تمنع الكاميرات من تصوير الضحايا، اكانت الضحية رجلاً او امرأة او شجرة، وتلاحق الناجين في مهاجعهم الموقتة والمرتجلة، تجعل من فكرة الدولة الجامعة اثراً بعد عين. ففي اصل مهمات الدولة وعلى رأسها تقع مهمة تنظيم عيش المواطنين والرعايا على نحو يستعدون من خلاله لاستقبال الموت. الحياة في وجه عام هي سعي نحو الموت لا يتوقف. كان المواطنون اللبنانيون وهم يشيعون شهداء مجزرة قانا الثانية يرددون وهم يجهشون بالبكاء، ما ذنب الاطفال حتى تقتلهم الطائرات؟ هم يعرفون ان بين الضحايا ثمة رجال وشبان بلغوا اشدهم، لكنهم يعرفون ان الرجل البالغ يسعى نحو الموت، وانه في حياته اليومية يواجهه كل لحظة، وانه مستعد له وليس ثمة واسطة بين السعي والموت. موت البالغ مبرر بسبب من سعيه، وبسبب من انه انتظم مواطناً في صفوف المواطنين الذين تنظم الدولة موتهم وتجعله يقع تماماً في دائرة الحوادث العرضية. بمعنى ان قراءة تقرير عن عدد ضحايا حوادث السير والعمل في بلد كلبنان توضح رقمياً كم ان هذا الموت، الذي هو كثير وهائل، يمر امامنا من دون ان ننتبه لوقعه. حتى الدول التي تخوض حروباً طويلة تضع مواطنيها امام احتمال الموت في الحروب بوصفه حادثاً عرضياً من يومياتها. في لبنان لم يكن الحال على النحو الذي نتحدث عنه. الحكومة اللبنانية رأت انها لم تكن مستعدة للحرب ولم تكن على علم بالعملية التي اسر فيها حزب الله جنديين اسرائيليين والتي كانت السبب المباشر الذي ادى لاندلاع الحرب. وحزب الله نفسه اعلن بلسان امينه العام انه لم يكن يتوقع ان الرد الإسرائيلي سيكون حرباً شاملة. الامر الذي جعلنا نجد انفسنا فجأة كمواطنين لبنانيين امام دولة ومقاومة عاجزتين عن تنظيم الموت، مما جعل الموت ثقيل الوطأة ولا يمكن احتماله. موت كارثي.

العيش في زمن ما بعد الموت
لكن الكارثة لا تفسر وحدها هذا الهول. تسونامي كان كارثة. لكنه كان كارثة كما يجدر بالكارثة ان تكون. ان ننام ونصحو فنجد انفسنا امام دمار هائل وخسائر لا تحصى. ان يأتي الموت دفعة واحدة ويجتاح كل ما حوله. لكن الناجين ومنذ ان تضرب الموجة ضربتها يعيدون تشكيل المشهد الذي دمر وذاكرات المفقودين ويشرعون بالبحث عن جثثهم ليدفنوها في قبور ذات شواهد تحمل اسماءهم. الامر كان مختلفاً في هذه الحرب. كنا امام موجة قاتلة تعطل عمل الدولة، لكنها لم تكن موجة فحسب، كانت نظام حياة. كان علينا ان نتخيل موجة عملاقة تضرب من دون انقطاع هذه البلاد طوال ثلاثة وثلاثين يوماً كاملة. في هذا الزمن الذي لا يحصى من عمر الحرب، لم يعد اليوم الذي يعيشه المرء يقربه من الموت يوماً واحداً كما هي الحال في العيش العادي، بل صار اليوم الذي يعيشه المرء هو يوم يقع في زمن ما بعد الموت. اي ان النجاة التي يتحسس اثارها المرء في عظامه ولحمه كل صباح هي بالضبط العيش يوماً اضافياً في زمن ما بعد الموت. الاجتماع، أي اجتماع، والذي من صفاته انه يحترف الخوف، يريد ان يكون الموت مفهوماً ومعقولاً ومتوقعاً. اي ان يكون الموت هو التوقع. لكن ما كان من شأن هذه الحرب انها جعلت الموت الذي كان يصيبنا بلا انقطاع هو الماضي بامتياز. لهذا عطل الموت في ما عطل آلة الدولة التي تنظم الموت، وعطل الاجتماع الذي من صفاته ايضاً ان يحتفل بالموت لا بمجرد البقاء على قيد الحياة.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .