الاثنين، 12 يناير 2009

ماجد كيالي: من التوريط الواعي إلى حرب الصواريخ


منذ بدايتها، في منتصف الستينيات، توسلت الحركة الوطنية اسلوب الكفاح المسلح، أو حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، سبيلاً لتحرير فلسطين، لكن حركة فتح التي بادرت الى هذا الاسلوب، كانت تتوخى منه، اولاً، ابراز البعد الفلسطيني، واستعادة القضية من وصاية الأنظمة. وثانياً، تحريك الجبهات العربية، وفق فكرة «التوريط» الواعي، التي تفترض استدراج ردة فعل اسرائيلية ضد الدول العربية التي تقوم بدورها بالرد على الجيش الاسرائيلي.والحقيقة فان قيادة «فتح» لم تكن تعول على الكفاح المسلح، بحد ذاته، لتحقيق غاية التحرير، فهي كانت تعتقد ان الشعب الفلسطيني هو طليعة معركة التحرير، وان الجيوش العربية، فيما بعد هي التي ستحسم امر المعركة.لكن التجربة اكدت ان مراهنات فتح هذه كانت خاسرة وواهمة، وأنها تنطلق من منطلقات ارادوية وذاتية، لا تنبني على تحليل موضوعي وناضج للواقع العربي، وموازين القوى، والمعطيات العربية والدولية. فالنظم القائمة لم تكن تعد للتحرير، وعمليات فتح لم تحرك الجيوش العربية، لردع اسرائيل، وهذ الجيوش لم تكن على درجة مناسبة من الجهوزية، على مختلف المستويات لمواجهة جيشها. ودليل ذلك ان اسرائيل شنت حربا (1967) احتلت فيها اراضي واسعة من مصر (شبه جزيرة سيناء) وسورية (مرتفعات الجولان) والأردن (الضفة الغربية)، في ايام معدودات.بالمحصلة فان فتح وبدلا من ان تورط الأنظمة العربية، مع اسرائيل، تورطت هي، والفصائل، بصراع مع النظام الأردني (1970)، ادى الى خروج المنظمات من بلد يمتلك اطول حدود مع اسرائيل، وأكثر عدد من اللاجئين الفلسطينيين.ايضا، لم تنجح سياسة «التوريط الواعي» في لبنان، حيث ان طبيعة الدولة والجيش فيه لا تسمحان بذلك، ما ادى الى تصريف معظم طاقة فتح والفصائل الفلسطينية في صراعات جانبية مضرة، خارج الصراع مع العدو الاسرائيلي، منها: 1) التحول الى نوع من القوة النظامية في مواجهة اسرائيل، حيث حولت قوات الفدائيين الى نوع من جيش، من حيث الهيكلية والعتاد. 2) التحول الى سلطة في المخيمات وبعض المناطق اللبنانية، مع ما يترتب على ذلك من ميليشيات وأجهزة أمنية وخدمية واحتكاك سلبي بالمواطنين. 3) التورط بتوتير الأوضاع في لبنان، وتاليا في الحرب الأهلية فيه. 4) التورط باحتكاكات مع النفوذ السوري في لبنان. 5) تكبيد الفلسطينيين واللبنانيين خسائر فادحة، بشرية ومادية، نتيجة الحروب التي شنتها اسرائيل على لبنان منذ السبعينات وحتى حصار بيروت (1982).المعنى ان الدول العربية كانت في واد، وقيادة فتح في واد آخر، ما يفيد بخطأ اعتماد اي فصيل او قوة على رصيد طرف آخر، خاصة اذا كان ثمة اختلاف في طبيعة هذا الطرف وحساباته، كما يفيد ذلك بخطأ تحويل حركة التحرر الوطني الى سلطة، وخطأ انتقال هذه الحركة من معادلة المقاومة الشعبية (وضمنها المسلحة) الى معادلة الحرب النظامية (جيش مقابل جيش او صواريخ مقابل صواريخ).الان اذا اخذنا تجربة المواجهات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، الدائرة منذ اواخر العام 2000، مثلا، فسنجد ان ليس لها علاقة البتة بمعادلات حرب الشعب طويلة الأمد، التي تبتغي استنزاف العدو وانهاكه ورفع كلفة احتلاله، ولا بالانتفاضة الشعبية التي اندلعت في اعوام 19878 ـ 1993، والتي استطاعت تقديم النموذج الأنسب لكفاح الشعب الفلسطيني، مثلما استطاعت اثارة التناقضات الاسرائيلية، وفضح اسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية غاشمة، وفرض وجود الشعب الفلسطيني في الأجندة الاسرائيلية والدولية؛ وحينها حيدت انتفاضة الحجارة القوة العاتية للجيش الاسرائيلي الى حد كبير، وقللت خسائر الفلسطينيين البشرية.معلوم ان طابع المقاومة المسلحة، وفق نمط العمليات التفجيرية، في المدن الاسرائيلية، وعمليات القصف الصاروخي من قطاع غزة الى البلدات الاسرائيلية المحاذية للقطاع، طغى عن تلك المواجهات، ما اسهم بحشد المجتمع الاسرائيلي خلف قيادته (بدل ان يعمق تناقضاته)، وشوش على الرأي العام الدولي، وعلى موقف الدول المؤيدة لحقوق الفلسطينيين، المتعلقة باقامة دولتهم بارضهم المحتلة، وقدم الفرصة لاسرائيل للامعان بالبطش بالفلسطينيين والاستفراد بهم، واستنزافهم، الامر الذي كانت نتيتجته ان الشعب الفلسطيني دفع ثمناً باهظاً، في الخسائر البشرية والمادية والسياسية؛ وها هو في ايام معدودات، وبنتيجة الوحشية والعنصرية الاسرائيلية، خسر اكثر من سبعمئة شهيد وأكثر من الفي جريح، هذا اولاً.ثانياً: ان هذه العمليات (التفديرية والصاروخية) كانت عشوائية في اهدافها، وتوقيتاتها، وزخمها، وبدت وكأنها غاية في حد ذاتها، غير خاضعة لمقياس او لعقلية قيادية. والحاصل فان هذه العمليات، كانت خارج الأعراف المتبعة في حروب التحرر الوطني ضد الاستعمار، أو حرب الشعب طويلة الأمد، أو حرب الضعيف ضد القوي، حيث يقتصد الطرف الضعيف بقواه، ولا يبدد طاقته، كونه لا يخوض حرباً بالضربة القاضية، لان هكذا حرب ستكون الكلمة الأخيرة فيها لمن يمتلك القوة العسكرية الأكبر والأقوى والأحدث. ولذلك فان خبرات حروب حركات التحرر الوطني تفيد بضرورة تحاشي تعريض قواها لضربات قاسية، وتجنب عدوها حين يكون مستنفراً ومستفزاً، ادراكاً منها انها تخوض حرباً سياسية، طويلة الأمد، يبنغي كسبها بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وبالغلبة بالوسائل والمعطيات السياسية وليس بالوسائل العسكرية فقط. هكذا فان الوتيرة العالية من عمليات المقاومة عام 2002، التي ادت الى مقتل اكثر من اربعمئة اسرائيلي، جلبت مصرع وجرح واعتقال عشرات الألوف من الفلسطينيين، وتقويض الكيان الفلسطيني، ومعاودة احتلال الضفة الغربية وبناء الجدار الفاصل وتحويل قطاع غزة الى سجن كبير، ثم تراجعت عمليات المقاومة بدرجة كبيرة جداً، اذ شهد العام 2007 مصرع 11 اسرائيلياً فقط، وعام 2006 مصرع 24 اسرائيلياً، و2005 50 اسرائيلياً.ثالثاً، بعد انسحاب اسرائيل من غزة، وتفكيك مستوطناتها وبدلاً من ان يتحول هذا المكسب لانجاز وطني يمكن البماء عليه، اذا به يتحول الى عبء على المشروع الفلسطيني بسبب المبالغة بالقدرات، وعدم اطلاق نقاش سياسي عقلاني بشأن مكانه القطاع في العملية الوطنية، وبسبب الانقسام فثمة من اعتبر ان القطاع، وهو بمثابة سجن لمليون ونصف مليون فلسطيني، يمكن ان يتحول الى قاعدة لتحرير فلسطين او لدحر الاحتلال من الضفة. ونسي هؤلاء بأن القطاع بسكانه يعتمد على اسرائيل بموارده الحيوية (الكهرباء والطاقة والماء والمواد التموينية والصيدلانية)، التي تتحكم بمعابره، وبالسيطرة على مياهه وأجوائه.المغزى ان الزمن الراهن ليس زمن التحرير في الأجندة العربية والدولية، لذا فثمة مغامرة في تحميل القطاع عبء هذه المهمة، وتحمل تبعاتها. فقد أكدت التجربة ان الفلسطينيين يتعاملون مع عدو بجبروته. والدعم الذي يلقاه يفتقد لأي كوابح قانونية أو أخلاقية، كما لأي رادع في المعطيات الدولية والاقليمية. وليس ثمة ما يراهن عليه للتورط بهذا الوضع. لا الحال الرسمي العربي، ولا الشعبي المقيد.طبعاً لا يتعلق النقاش هنا بشرعية المقاومة، وضمنها المسلحة، ضد الاحتلال بل بكيفية ادارة المقاومة، وان الشعب، والمقاومة الشعبية، هو الاساس في مقاومة المستعمر. كما لا يتناول النقاش مسألة الغلبة في القوى، فلطالما كانت الشعوب المستعمرة أضعف بامكانياتها العسكرية من المستعمر. ولكن النقاش هنا يدور عن ضرورة اخضاع كافة اشكال المقاومة، وضمنها المسلحة، لاستراتيجية سياسية واضحة وممكنة، واختيار أشكال النضال الملائمة لكل مرحلة، مع تأكيد ان نجاعة اي شكل نضالي تتحدد بضمان ديمومته وتحمل تبعاته. وتأمين مقومات الحياة الطبيعية للشعب، كما بشل قدرة الطرف الآخر على استخدام اقصى قوته.المؤسف ان هذه التجارب والتحولات، على اهميتها وتداعياتها الخطيرة. لم تنتج وعياً نقدياً لها، ولم يجر تفحص جدواها او تأثيراتها، كما لم تنتج نظرية استراتيجية عسكرية خاصة بالمقاومة الفلسطينية، بسبب غياب المساءلة، وضعف العملية، والنزعة الشعاراتية، وايضاَ بسبب المشاعر الشعبوية، التي تنظر الى التضحية والشهادة باعتبارهما قيمة عليا، بغض النظر عن الانجازات المتحققة.
المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .