الاثنين، 12 يناير 2009

وسام سعاده: اشباح 1948


وسام سعادةإذا صحّ أن العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة يدخل مع أسبوعه الثالث في "مرحلة ثالثة"، فهذا يعني أنّه ستكون هناك مرحلة رابعة فخامسة فسادسة، وأن الأمور سائرة إلى المجهول، والمجهول يصعب حصره في 360 كم2 هي كل مساحة قطاع غزّة. فالأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصر الله عبّر بدقّة عن طبيعة العدوان الراهن، في خطابه يوم عاشوراء، وبالتحديد حين فاتح أنصاره قائلاً "نحن لا نعرف حتى الآن حجم المشروع وأبعاده". مع ذلك فهو لم يبن على الشيء مقتضاه: إذا لا يمكنك تخوين لبنانيين آخرين وفلسطينيين آخرين وعرباً كثيرين واستعداء كل العالم والحديث عن "تواطؤ" و"تآمر" طالما أن المشروع العدوانيّ الصهيونيّ لم يتضح حجمه بالنسبة لك، ولم ترتسم جميع أبعاده في ذهنك. وعندما يقال "لا نعرف حتى الآن حجم المشروع وأبعاده" فهذا يناقض بشكل أو بآخر بعض الدعاية الرائجة في قنوات "الممانعة" والتي تسرّعت منذ بداية العدوان للإطمئنان إلى محدوديته الزمنية والمكانية، وتقدير بساطة ارتباطه بالإنتخابات التشريعية الإسرائيلية. والحال أنّ المقولة التي روّجتها الممانعة والتي مفادها أن الأحزاب الصهيونيّة تخوض الآن الدور التمهيّدي للإنتخابات من خلال عدوان الثلاثي المنقسم على نفسه "أولمرت ليفني باراك" على قطاع غزّة هي مقولة مُضلّلة وعاجزة عن إدراك طبيعة الخطر الذي يتهدّد الفلسطينيين. يتخطّى هذا العدوان البعد الإنتخابيّ الصرف في اسرائيل، بل أنّ اقتراب موعد الإنتخابات الإسرائيليّة خدع الكثيرين من الممانعين، وشكّل تغطية للأهداف النوعيّة،"الجذريّة" أو "الإستئصاليّة"، التي يتوخّاها هذا العدوان. ليس يكتفي الأخير بالتمهيد في الإنتخابات، والصهاينة لم يقطعوا كلّ البحار لإستعمار فلسطين لا لشيء إلا تنظيم انتخابات. الأصح أن الإنتخابات نفسها لحظة متمّمة لهذا العدوان، بل لحظة قد لا يتبعها فوز هذا الحزب أو ذاك في إسرائيل.. وإنّما قيام حكومة إتحاد قوميّ في إسرائيل، حكومة "تنسيقيّة" بالكامل مع القيادة العدوانية للجيش الإسرائيليّ. ثم أنّ اطمئنان الممانعين في البدء إلى أنّ إسرائيل تخوض موسماً إنتخابياً دمويّاً في قطاع غزّة ليس إلا، إنما هو اطمئنان فاقد للمناعة أمام الدعاية الصهيونية، ويتناقض بالتمام مع مقولة أخرى غالباً ما يردّدها الممانعون، وغالباً أيضاً ما لا يفقهون مضمونها. فردّ كل شيء إلى الشهوات الإنتخابية في اسرائيل، أو تداخل الشهوات الإنتخابية مع الشهوات الإجرامية، هو تصوّر تبسيطي إختزاليّ يتعارض مع مقولة أن "اسرائيل هي دولة لجيش لا جيشاً لدولة"، تلك المقولة التي، عجباً كيف قرّر أن الممانعون تناسيها، تماماً، في هذه اللحظة المصيريّة بالتحديد.. مع أنّ الفارق الأساسي بين حرب تمّوز 2006 وبين الحرب على غزّة اليوم، هو غياب الإقتناع والإندفاع الكافيين لدى قيادات الجيش الإسرائيلي في الأولى، في مقابل مراهنة هذا الجيش بكل رصيده في الثانية، واختياره مسار "اللاعودة"، وهو ما يعود بشكل أساسيّ إلى بروز لمحات "بونابرتية" يمثّلها رئيس الأركان الجنرال غابي أشكنازي (والأخير من أمّ يهوديّة سوريّة وأب ناج من المحرقة النازية). فما تخوضه دولة إسرائيل حاليّاً يتخذ شكل التحدّي الوجوديّ مع نفسها، قبل أن تكون مواجهة وجوديّة مع سكّان الأرض الأصليين أو مع المحيط العربيّ والإسلاميّ. هذا التحدّي هو بالدرجة الأولى مع إحدى المقولات الأساسية التي جاءت في تقرير بيكر هاملتون في 6 كانون الاول 2006، وهو تقرير يتعرّض أساساً لإخفاقات الإدارة الأميركية في العراق وسبل تجاوزها لكنّه يقدّم جملة توصيات تتعلّق بتسوية الصراع العربي الإسرائيليّ. تفيد هذه المقولة بأن "الإسرائيليين في أكثريتهم أمّة تعبت من أن تكون دائماً في حالة حرب" وتبني على ذلك تفاؤلاً في حظوظ التسوية في المنطقة، بدءاً بالمسار السوريّ الإسرائيليّ. ما تحاربه اسرائيل الآن هو تحديداً هذه المقولة. وجهة النظر التي تطبع الحركة الصهيونيّة في الداخل الإسرائيلي وفي الشتات هو أنّ "الإسرائيليين لا يحبّون الحرب لكنّهم يفضّلونها على الإنتحار، وعلى المحرقة". المفارقة إذاً: إسرائيل تنسف تشخيص بيكر هاملتون لأزمتها، قبل أيّام من وصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة في واشنطن. لأجل ذلك ازدهرت في الأيّام الماضية في اسرائيل والشتات صيغ تعريفيّة للعدوان الحالي على غزّة بأنّه باكورة "حرب استقلال ثانية" (نسبة إلى "حرب الإستقلال" لعام 1948، أو "النكبة" في المأثورين الفلسطينيّ والعربيّ). مع التذكير بأن أرييل شارون عام 2000 تحدّث هو أيضاً عن "حرب استقلال ثانية". واليوم، تسود قناعة في اسرائيل بأن شارون قد تمكّن من ضرب التهديد الوجوديّ الآتي من الضفّة مع "الإنتفاضة الثانية" لكنّه خاطر بإنسحاب أحاديّ من غزّة، مثلما خاطر سلفه باراك بالإنسحاب الأحاديّ من جنوب لبنان عام 2000. إن أكثر الإسرائيليين مقتنعون اليوم بأنّ تجربة الإنسحابات، منذ إخلاء سيناء بموجب إتفاقية كامب ديفيد وصولاً إلى الإنسحابين الأحاديين من جنوب لبنان وقطاع غزّة، لم يؤدّيا إلى تعزيز فرص السلام في المنطقة، وإنّما إلى مزيد من الحروب، وإلى إنتعاشة نغمة "تدمير دولة إسرائيل" التي كانت خفتت بعد النكبة والنكسة، وفي أيّام تذبذب الحركة الوطنية الفلسطينية بين شعاري "الدولة الديموقراطية الموحدة للعرب واليهود" أو "الدولتين الديموقراطيتين المتجاورتين". إسرائيل اليوم تحاول أن تقول للعالم بأسره: إن انسحابها من قطاع غزّة كان الإنسحاب الأخير في تاريخها. والقراءة الإسرائيلية الحالية لتقرير لجنة فينوغراد تنطلق من فقرة حسبناها عابرة فيه وتقول بأنّ المقاتلين الأكثر يفاعة في الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، وسواء كانوا جزءاً من وحدات النخبة أو من العديد أو من الإحتياطيّ كانوا وبأشواط "أكثر اندفاعاً من سواهم". وهو ما يتطابق مع استطلاع رأي أجري في آخر 2007 وسئل فيه الشبان في اسرائيل عن أي التنظيمات المسلّحة كانوا لينتسبوا إليها لو كانوا في وضع أجدادهم في أيام حرب 1948، فكانت النتيجة أنّ أقليّة منهم تختار نموذج "الهاغاناه"، أي المنظمة العسكرية شبه الرسمية المنبثقة عن "الوكالة اليهودية"، وتحت سيطرة اليسار، في حين أن الأكثرية تفضّل بوضوح نموذج التشكيلات اليمينية مثل "الإيرغون" (التي كانت تستهدف الإنتداب البريطاني وتنادي بالسيطرة على غرب وشرق نهر الأردن) و"الشترن" (المستعدّة دائماً للجوء إلى أبشع الوسائل لضمان قيام الدولة). والحال أنّ "حرب الإستقلال الإسرائيلية الثانية" إن كان يوجّهها مبدأ "أن لا سيادة غرب نهر الأردن إلا سيادة الجيش الإسرائيليّ"، ومبدأ أنه "لا دولة غرب الأردن غير الدولة اليهوديّة"، فهي تستفيد حتماً من غلاة الممانعة الذين يطرحون شعار "الإلغاء الوجوديّ" لإسرائيل دون أن يقولوا لنا بم وكيف ومتى، ولا يخاطبون جمهورهم إلا بالقول لهم "إتبعونا.. أحياء أو أموات إتبعونا".
المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .