الثلاثاء، 12 أغسطس 2008



وقت مستقطع بين الحجارة والرمل

بلال خبيز


قلت لنفسي لو انني جرحت يدي او ساقي. جرح كتلك الجروح التي يهواها المنتحرون. ليس عميقاً بالقدر الكافي لكنه حاد وغزير، إلى حد ان الألم الذي ينتج عنه يتحول مع الوقت اكثر قسوة من الموت نفسه. لو انني جرحت يدي، هل تتفاقم الغربة؟
من عسير المصادفات ان الاطباء في هيوستن كانوا في اللحظة نفسها يجرحون صدر محمود درويش املاً في انقاذ حياته، من عسير المفارقات ان الشاعر، بصدر مجروح او جرح ملتئم، يخاطب المه في انتظام الجندي. الالم، هو رفيق الغريب. اكان في هيوستن ام في باريس، او حتى في بيروت. رفيق الغريب لأن الغريب يحسن التحدث اكثر ما يحسن إلى ألمه. في لحظة مثل هذه يصبح الألم ذاكرة للجسد.
" لم تكن البروة (كفرشوبا) قرية ذات شأن في تاريخ فلسطين (لبنان)، لكن ذلك الغروب (الصباح) الدامي جعل من كفرشوبا (البروة) المنسية ملحمة شعب صابر. وحين جلسنا على حجارتها ذات صباح، عرفنا الجريمة التي ننال عليها كل هذا العقاب، وادركنا ان الحجارة هي الوقت، فجلسنا عليها نغني للوطن".
الوقت لم يكن كله حجار فحسب. كان ثمة ايضاً بحور من تعب ورحيل، واكياس عواصف مهملة عند الزوايا، واعداء يحسدون ضحاياهم. وكان على المرء ان يربح الوقت. لأن الشعراء مثل الجنود لا يربحون الحروب. هل غلب الوقت محمود درويش؟ ومتى رفع الشاعر راياته البيض؟ تباً للأسئلة الخطأ، متى لم تكن بيضاً رايات محمود درويش؟ هكذا يكون الشاعر وهو يعيش في زمن ما بعد الكارثة. رافعاً راياته البيض، ليس لأنه مستسلم، بل لأن ثمة زمن ولد قبل ان يولد واورثه الكارثة. هذه المناديل التي تلوح للوداع هي رايات بيض، وهذه العيون ايضاً، إذ كيف يطيق وداع الاحبة والأمكنة من لم يرفع راياته البيض عالياً؟ كيف يمكن للمرء من دون مثل هذه الرايات ان يرحل من زمن إلى زمن، كل مرة راكباً ايلول جديداً؟ وليكن الأمر استسلاماً. لا بأس. استسلمنا لوهن الجسد في الغربة، واستسلمنا للمرض في مستشفيات غريبة وبيضاء. بيضاء، بيضاء، بيضاء، حتى لتكاد تشف عن شرايين قاطنيها، عن الدم الذي يعبر بطيئاً وشبه بارد في الشرايين. بيضاء، لأنها لم تكن تملك قلباً اصلاً.
وها نحن هنا، نرفع راياتنا البيض، لكل منا اندلسه ايها الراحل. لكل منا بيروته ايضاً. ولك وحدك ان تقف على تلة في رام الله، وتصيح: يا ليتني.. يا ليتني... يا ليتني كنت حجراً هناك! ابيض ومرقوم، ومرفوع كما لو انه لا يهزم ولا ينحني. من الذي قال ان السرو لا يحسن الانحناء. وحدها الاحجار تحسن ان تبقى منتصبة امام العواصف.
ها نحن هنا، لكل منا راياته، والمه، وحين يفكر المرء بنفسه قليلاً، لا يستطيع ان ينسى هول الوقت. الوقت الذي يطيح بوعودنا كلها. الوقت ( الموت) الذي ننتظره منذ الولادة، لكنه يفاجئنا دائماً لأنه لا يحسن التكرار. فج وعميق ووعر، كمثل رعاة جبليين، ونحن نقع تحت عصاه. ونحاول جهدنا ان نؤخر حلولها.
ها نحن هنا. كثيرون ماتوا قبلنا. كثيرون لا يحصون، بعضهم اعزاء واحبة، وبعضهم لم نكن نكّن لهم الود. لكنها المرة الاولى، التي لا نجد كلاماً مناسباً. هل في وسع اي كان ان يقول في محمود درويش كلاماً اقل من الشعر العالي؟ نظرة سريعة إلى ما كتب في وداعه، تثبت انه كان مستحيلاً على العقل، ومستحيلاً على المنطق. لكنه كان ايضاً الوحيد الذي يحسن ان يصنع للكوارث منطقاً ويصنع من الفجيعة تاريخاً.
تلك هي محنة ان تكون فلسطينياً، لأنك منذ ولادتك ستعيش في الوقت لا في المكان. الوقت الذي عبر، واصبح حجارة، والوقت الذي سيأتي وما زال رملاً. وبين الحجارة والرمل ثمة بحور كثيرة ينبغي ان تقطعها، وان تجوع وتعطش ثم تنجو. تنجو ليس كما ينجو الناجون فتنتهي الحكاية بخاتمة سعيدة. تنجو لتدخل من جديد في هول الوقت الذي ينتظرك بعد كل نجاة. تلك صعوبة ان تكون فلسطينياً. بالتاكيد. لكنك ايضاً ستحسد الفلسطيني على الحزن الذي يرافقه كظله. كم واحد منا لوحت له مناديل الامهات والشقيقات وهو يغادر؟ كم واحد منا اختبر حجم الحنين؟ لا احد قطعاً. ثمة في لافلسطينيتنا ما يجعلنا دوماً ابناء امكنة. نغادرها غاضبين، نغادرها خائبين، لكننا لا نغادرها ونحن نبكيها. فلسطين، بين كل البلاد تلك التي لا تستطيع مغادرتها، لأنها تقع في الوقت. والوقت ليس حجارة وحسب، انه القلب. القلب الذي يرمي لنافذة تحيته الاخيرة، والقلب الذي يعوي ويعد البراري بالبكاء الحر.
ان تكون فلسطينياً. هذا ما لم نكنه يوماً. وهذا ما نحسد محمود درويش عليه. كان فلسطينياً ولم نكن نستطيع الارتفاع إلى شجنه العالي. شجنه الذي ينمو مثل اشجار الكرز، عالياً وهشاً وشهياً.
رحل محمود درويش. وابتداء من الساعة التي رحل فيها، لم يعد في امكاننا ان نوازيه. له 175 سنتيمتراً من التراب في تلة تشرف على رام الله. يقولون انه احب المدينة. احبها؟ ربما، محمود درويش احب مدناً كثيرة، لكن جلها كان خؤون. رام الله المحبوبة هناك في ذلك البلد البعيد جداً. بعيد ولا نريد ان نصدق اننا نستطيع ان نرمي حجارتنا إليه. ان نحمل تلك الحجارة رسائل نكتب فيها: هذا حجر من لبنان، ونود ان نضيفه إلى احجار فلسطين. هكذا نعاون اهلها على مهمة قتل الوقت المستحيلة. وهي مستحيلة فقط هناك. رام الله المحبوبة بعيدة كثيراً، ربما لأن ترابها يحتضنه. فنحن لا نستطيع ان نوازيه او نلتحق به.
بين الفلسطينيين الكثر الذين نعرفهم ويعرفهم العالم، لم يكن درويش يدبر الوقت بالضحك. كان طافحاً بالحنين إلى حد انه لم يعد يملك مساحة فائضة. الضحك عدو المنطق، لأنه يولد من الرحم ذاتها. لكن الضحك ايضاً هو وسيلتنا لاختراع المكان. حين نضحك، تصبح البلاد بلاداً. بلاد ناقصة، لكنها تبقى بلاداً. هذا ما رأيناه في اعمال فنانين فلسطينيين كثيرين. لكن محمود درويش لم يكن ضاحكاً، كان يريد ان يثبت ان الحنين مستقبل، وليس مجرد حزن عابر تمحوه الضحكات.
ايضاً لم يكن يتقن الغضب. الغضب الذي يملأ المرء إلى حد الانفجار. لم يكن يتقن الغضب، لان الغضب اقرار بموت المستقبل. هكذا تعلمنا من بعض ما كتب، وهكذا كان يحسن ان يحيى الموتى ويبعث الروح في الرماد مستخدماً طاقته الهائلة على الحنين: كانت بيروت خيمتنا ونجمتنا.
لو انني جرحت يدي او ساقي. جرح كتلك الجروح التي يجيدها المنتحرون. هل كان في وسعي ان اقترب اكثر من تلك الأرض؟ كثيرة هي الجروح التي تصيبنا. لكن احداً لا يختبر الجرح الذي يجعله اقرب من تلك الأرض إلا المنتحرين. هل طعن محمود درويش قلبه؟ ومتى كانت الطعنة الأولى؟

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .