الأحد، 24 أغسطس 2008

كلمة على الأقل

البحث عن كلمة
الياس خوري

مشكلة الكتابة الأسبوعية انها لا ترحم. عليك ان تكتب سواء أحببت أم لم تحب. انها التزام شخصي وأخلاقي مع الورقة البيضاء. في كثير من الأحيان تأتي الى الكتابة مبعثرا، فتجمع الكلمات اجزاءك، وتعيد تنظيمك، وتُدخلك في المعنى. كأن الكتابة وسيلتك من اجل المصالحة مع العالم، وتجديد عقدك الدائم مع الدنيا.لكن ماذا تفعل حين تكون عاتباً على الدنيا ولا تريد مصالحتها؟ كيف تكتب عن انحلال معنى الكلمات مستخدماً الكلمات التي خانتك او التي قررت ان تخونها؟!في العامية نقول عن الشخص البَرِم بالدنيا انه "قلب وجهه". ينقلب الوجه، وبدل ان يكون باباً مفتوحاً، وأفقاً مصنوعاً من عينين وابتسامة، يصير حائطاً. ينقلب الوجه فيصير صمتاً لا تستطيع الكلمات اختراقه. الصمت يملك كلماته المكررة، التي لا تقول شيئا. لكن انقلاب الوجه قد يصل في بعض الأحيان الى حد رفض استخدام الكلمات الجاهزة، فيصير كل شيء مقفلا بصمت ثقيل. حين تثقل الدنيا عليك، وتشعر ان صدرك صار بلاطة ثقيلة خرساء، ولا تجد امامك سوى النوم، النوم لا بحثاً عن الأحلام، بل بحثاً عن ظلام شامل لا تخترقه بقع المنامات، النوم كسبات بلا افق، عندذاك يصل عتبك على الدنيا الى ذروته، وتشعر بأن كلماتك تتفكك، وبأنك فقدت طعم المعاني ورائحتها ومذاقها.شرود كالهاوية، وعجز عن ايصال مشاعرك الى الآخرين، وحفرة لا تتسع الا لجسدك. حفرة مسوّرة بالعتمة، وعتمة تتكاثف وتجمد. كل شيء يجمد، حتى الدموع لا تسيل. عالم بلا ماء. فحين لا تعود قادرا على رؤية السراب، ينقطع الماء، ويتكسّر الجفاف على وجهك.ليس غضباً. الغضب فعل او احتمالات فعل. حتى الغضب يختفي، ويحل مكانه شيء من الشرود يرفض الاستسلام. لا الغضب ولا التحدي. المتنبي تحدّى الزمان وشتمه، وقرر ان الموت "ضرب من القتل"، لكنك تعلم ان الشاعر كان يكابر، فحين يتّحد الزمان بأقدارنا، لا يعود التحدي سوى موقف غير مجدٍ، ولا إعراب له.الحزن شيء آخر. انه غلالة تغطّي التواصل مع الآخرين. اما حين لا يكون الآخرون، حين يأخذك العتب على الدنيا الى كعب روحك، حيث لا تريد لأحد ان يأتي اليك، عندذاك تصاب بشيء لا اسم له لأنه عصيّ على التسمية.كانت العرب تطلق اسم الحرد، على هذا الشيء. وكنا في طفولتنا نحرد كثيرا، فنصاب بذلك العيّ عن الكلام، ونجد لأنفسنا زاوية نختبئ فيها. لكننا مع العمر والتأقلم مع الخسارات، تخلّينا عن هذه العادة، معتقدين انها كانت شيئا من ضبابية الطفولة، ومن عجزنا عن استخدام الكلمات الملائمة. لكننا نكتشف ان المسألة لم تكن بهذه البساطة، اذ سيصاحبنا هذا الشعور طوال حياتنا، وسوف يظهر ونخفيه، الى ان تحل فينا مصيبة لا قدرة لنا على ابتلاعها. عندذاك نكتشف ان كلمة الحرد ليست مطابقة، لأنها ابتذلت وأُعطيت طابعاً طفولياً ساذجاً. نعود الى "لسان العرب": "حرد يحرد حرودا اي تنحّى وتحوّل عن قومه". تقول العرب: "حاردت الابل، اي انقطع لبنها، وحاردت السنة، اي قلّ مطرها".الحالة التي احاول وصفها مرتبطة بالمطر والماء، لكن العرب لم تكن تحبّ المجاز، كي تقول عن شخص انه انقطع مطره، او جفّ ماؤه. ما احاول الوصول اليه ليس مجازا او استعارة، بل هو تشخصن المجاز وتحوّله الى حقيقة. حين نحاول التعبير عن المعيش الواقعي، ونخاف من الكلمات المبتذلة، نلجأ الى المجاز او الاستعارة. لكن كيف نعبّر عن حقيقة تقدّم نفسها في اللغة في وصفها مجازاً؟ هل نستطيع اللجوء الى مجاز للمجاز، وعندها هل يصل المعنى؟ ام عليه ان يبقى هائما في تجاويف احتمالات اللغة، التي تشبه بئرا عميقة لا يستطيع الأحياء الوصول الى قعرها؟الحرد ليست الكلمة التي ابحث عنها، على رغم انها الأقرب الى المعنى، لأن الطفل الذي يحرد لا يملك مطلبا او رغبة في شيء، بل يشعر بأن الدنيا ليست ملائمة، فينزوي. لكننا نعلم ان الطفل ينتظر امه كي تبدّد هذا الشعور. اما نحن، الذين ننتمي الى عالم الكبار، فقد توقفنا عن انتظار امهاتنا، وصرنا ايتاماً، واليتم مثل الموت مثل الشاعر "لا يحب الانتظار".لا ادري اذا كنت ابحث عن كلمة ما. حتى هذا البحث لا يعنيني اليوم. اريد ان اترك لروحي ان تفعل بنفسها ما تشاء، وان تعيش على ضفاف حزن لا يشبه الحزن، وغضب ليس غاضباً، وعتب لا يجد من يعتب منه، وحرد لا يعتزل الناس فقط بل يعتزل المعاني ايضاً.ما معنى عجز اللغة، هل الموت هو موت اللغة فينا ام موتنا نحن في اللغة؟ لا تستطيع اللغة ان تكون عاجزة، لكني عاجز امامها، ولا ارى سوى سواد الحبر الذي لا يرشح منه ايّ ضوء.كيف تكتب عجزك عن تسمية شيء لا اسم له؟ آدم لم يكن يعرف كل الأسماء، بل ترك بعض المشاعر بلا اوصاف وبلا كلمات، كي يتمجد الصمت، لحظة عجز الكلام.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .