الأربعاء، 27 أغسطس 2008

منامات وكوابيس لبنانية
قد يكون حلماً وقد قلت إنه حلم
علي زراقط
عن ملحق النهار البيروتية

ندخل إلى صالات السينما أفراداً. وندخل العلاقات أفراداً. وندخل إلى حفلة فيروز أفراداً. منذ تحرير الجنوب إلى الانسحاب السوري، تراكمت الانجازات في هذا الوطن. لبنان الذي شارف الدمار مراراً، وأعاد إنتاج نفسه مراراً، لم يستطع أن يصنع صورته وحدوده على الرغم من تراكم الانجازات التي تحققت فيه. ذلك لأننا لم نستطع أن ندخل الوطن أفراداً. فعندما نريد أن ندخل في الوطن، لا نستطيع أن نقرب حدوده إلا من باب الطوائف، ومروراً على حدودها.
الفتاة الجالسة خلف الصندوق، وجهها ضاحك. ضحكتها عالية. تبيع. تبتسم. تضحك. وتتأرجح على الكرسي المتحرك يمنةً ويساراً. في السوق الحرة في مطار بيروت، تبدو الحياة أسهل. أقل عبئاً. هنا كلنا سواسية، ما دمنا نمتلك 325 دولاراً ثمنا لتذكرة طائرة. يمكنني أن أتغزل بالفتاة العاملة في كشك السجائر، ولا خوف من أن لا أكون من ملاّك السيارات الرياضية. فأنا أستقل طائرة. يمكنني أن أتساوى في قدرتي على الجذب مع أغنى الأغنياء. وقد تظن الفتاة نظراً الى ثقتي المفرطة في نفسي، أني بالفعل من أغنى الأغنياء. من يدري؟! فحياتي خلفي. وانا هنا محميّ بتذكرة طائرة، وبالهدوء الذي يفرضه المكان عليَّ وعلى الآخرين من حولي. في السوق الحرة، حيث تختفي السلطات الخفية للمجتمع، يصير المرء فرداً، أراد ذلك أم لم يرد. لا تاريخ يؤرقه انتماؤه إليه، ولا مال يحكمه بموقع طبقي، ولا عداءات. استسلامٌ للرغبة في ملاطفة فتاة تبتسم لك. لا لشيء، إلا لتجعلها تحس بأنها جميلة، ولتجعلك تحس بأنك لا تزال أهلاً لإعجاب الفتيات بك. أنت في السوق، ولكنك للمرة الأولى لست مضطراً لأن تشتري أو تبيع. يمكنك ذلك، وهناك الكثير مما يغري بالشراء. لكن لا أحد، ولا شيء، يفرض عليك أن تتسوق. لن يلومك الباعة إن لم تشترِ، ولن تأبه لنظرات المسافرين. أنت هنا في عري كامل من الأحكام المسبقة. تتمنى لو أنك تستطيع ان تأخذ معك هذا الاحساس إلى خارج بوابات "الأمن العام" (المطار).
على محمل التناقض

قد أكون أحد القلائل يحبون الانتظار في المطارات. إلا أن هذا الاحساس الذي وصفته، هو ما يجعل المطار مكاناً استثنائياً، وخصوصاً إذا خرجت من الباب، من باب المطار، وبدأت الغوص والبحث بين أمواج الأحكام المسبقة. من سائق التاكسي الذي يريدك أن تركب معه بالقوة، إلى الشيّال الذي يقرر عنك أنك تعب ولا تستطيع نقل شنطتك بنفسك. ثم إلى المدينة... اللافتات الصفر ترحّب بالآتين، بالأسرى العائدين، غامزةً من باب من شككوا في عودتهم. اللوحات البيض تزعم أن "هلّق رجع الحق لصحابو"، غامزة من باب من ادعى سابقاً أنه "رجّع الحق لصحابو". تتذكر الجسر الذي هدّمته إسرائيل في مرورك على جسر المطار، وترى جسور المشاة التي عمّرتها إيران (بلدية طهران). تلاحظ أن جسراً جديداً تم افتتاحه يصل ما بين طريق المطار والحدت (قفزاً عن الضاحية). تسمع أحد الأقرباء يشتم الحكومة، على الرغم من أنها لم تبدأ أعمالها بعد. على حين غرة، تأتيك كلمة "إنتو اللي خرّبتو البلد" من فتاةٍ كنتَ تستلطفها، قاصدة طائفتكَ بعبارة "إنتو". أنتَ لست طائفياً، وتقارب الكفر أكثر من الإيمان، إلا أنك إذ تطأ أرض البلد السعيد (في هذه المرحلة والتعيس في غيرها)، تعود إلى حجمك الطبيعي. تتذكر طائفتك. تتذكر الحزازات التي يجب أن تتبناها. تتذكر أنك لا تملك أن تكون شيئاً غير مَن ولدت عليه. تتذكر أيضاً، بكثير من الحنين، وجه تلك الفتاة الجميلة التي كانت تضحك لك في سوق المطار الحرة.على محمل التناقض هذا، ما بين المكانين، تخرج إلى السطح أسئلة تتعلق بالانتماء. بين وطن الغواية، ووطن الانتماءات الضيقة، ثمة الكثير من الأسئلة. أعتقد أننا لو استطعنا الإجابة عن هذه الأسئلة، نكون قد تحققنا من هويتنا وأنجزناها.

الاستيحاد المرتجى

عندما كانت المواسم مواسم للملايين المحشودة هنا وهناك، كنت أنا أنتظر وبلهفة حفلة فيروز الآتية على مهل، وبعد تأجيل. أستذكر أنهم يومذاك كانوا يحسبون الناس بالكيلو، فالمليون مليون، ولا يمكن أن يكون مليونا وواحدا. أستذكر أني كنت مشتاقاً إلى صوت يغنّي لجمهوره فرداً فرداً. قد تكون ميزة فيروز (عدا كونها أجمل صوت نسائي في التاريخ) شبيهة بميزة السوق الحرة، أنها تُعنى بنا فرداً فرداً طالما أننا نمتلك بطاقةً الى سماع الصوت. السيدة تغنّي لك، ولي، ولها، ومن الصعب، بل من المستحيل أن تجد من لا يحس أن فيروز خلال غنائها معنيةٌ به شخصياً. هذا الحلم بالفردية، أن تكون وحدك ضمن مجموعة من الأشخاص، وأن تبقى وحدك بتمايزك ضمن مجموعة من الأشخاص. أن تمارس نشاطك الانساني من غير الحاجة الى التعريف عن نفسك على الطريقة اللبنانية. وأن تكون لبنانياً من غير أن تضطر إلى رفع العلم اللبناني كلما حلّت عليك لعنة التظاهر. عندما تستمع إلى فيروز تغنّي الجبال، والحقول، والحب، والحياة اليومية، تستمع إلى لبنان ما، وتستسلم له، وتنصرف أنت إلى التفاعل، أو الانسجام. حلمٌ بأن تستسلم لصوت، لسلطة جميلة، لسلطة لا تحكم عليك مسبقاً، وتعيرك كل العناية كما تعير الآخرين كل العناية. هذا كله وأنت لا تزال فرداً، لا تُعلي قبضتك كي تتوحد مع الجماهير، ولا تهتف بشعار واحد موحد، كما أن أحداً لم يطلب منك ذلك. ولن. قد تدمع، قد تتمايل، قد ترقص، وقد تحاول إغواء جارتك الكثيرة العاطفة علّك تدعوها إلى كأس هذه الليلة. تبدو هذه الوصفة لذيذة، ونحن نسمّيها في أعراف المثقفين "فردية". تتشابه الأماكن التي تمتلك هذا التأثير الفردي. من شاطئ البحر حيث الجميع يغطسون، وحيث أجسادٌ تحاول الاسمرار. لا تستطيع الأجساد أن يلفحها الاسمرار جماعةً. فهي تحتاج أن تسمرّ جسداً جسداً، أي فرداً فرداً. كذلك نحن أفراد في صالات السينما، والمسرح. نحن أفراد في هذه الأماكن لأنها تفرض علينا سطوتها، من غير أن تفرض علينا أن نكون موحدين، ومن غير أن تفرض علينا أن ننتمي مسبقاً، أو أن نتشكل جماعات تختار لها لوناً. المثير في الموضوع وهو اللب إذا ما وطئناه، أن هذه الأماكن على الرغم من وجودها ضمن الوطن اللبناني، لم تستطع يوماً أن تكون ظاهرةً عامة، حيث يبدو لبناننا أقل قدرة من السينما في بسط سيطرته على مكوّنات مجتمعه. ربما لأن لبناننا يختلف عن لبنانهم، وعن لبنانكم. لكلٍّ صورته عن هذا الوطن، إلا أن تكاثر الصور هذا لم يستطع أن يصنع صورة للوطن. لم يستطع أن يصنع فكرة الوطن اللبناني.

كولاج

في حانة في شارع المكحول (منطقة الحمراء)، نجد على الحائط صورة معلقة للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. نقترب من الصورة لنرى أنها مصنوعة من كولاج، فحواه مئات الصور للشخص نفسه. أرى في مقاربة مبسطة (على قدّي) أننا أخذنا الكثير من الصور للبنان، إلا أننا لم نستطع حتى الآن أن نصنع منها كولاجاً يجمعها. عندما ننظر إلى الجماهير التي اكتسحت الأرض في آذار 2005، ونرى إلى الأعلام اللبنانية المرفوعة عامذاك، نلاحظ كل شخص حمل علما انه متطابق تماماً مع الآخر، حتى أنه متطابق تماماً مع علم أي شخص من "الساحة" الأخرى. وعندما رأينا "الساحتين" من أعلى، كانتا متطابقتين تماماً في تماوج الألوان. إلا أن ما كان يشكل الاختلاف بين "الساحتين"، ظل ضامراً ومكنوناً وغير خارج إلى العلن. هنا نستطيع أن نخلص إلى نقطتين: الاولى أن اللبنانيين لم يستطيعوا حتى الآن التخلي عن الرغبة في توحيد الجماهير في الشكل، والمنطق والمضمون. فالناظر إلى المساحة الشاسعة من الألوان الحمر والبيض والخضر، لا يرى تمايزاً بين اللبنانيين، وقد يكون هذا خطأنا الأكبر أننا لا نريد أن نعترف بتمايز مجتمعاتنا المتعددة. ثم بتمايزنا كأفرادٍ عن بعضنا. عندما نرى مليون شخص، مرتين، يهتفون بالحنجرة نفسها، والصوت نفسه، ويرفعون العلم نفسه محاولين الاعلان أنهم هم اللبنانيون، يضيع معنى أن نتمايز. يتهافت مفهوم التعدد، ونقع في المواجهة. فإما لبنانكم، وإما لبناننا. النقطة الثانية أن الطوائف وجدت نفسها مضطرة إلى حمل العلم اللبناني والخروج به إلى الشارع، عندما بدأت المواجهة ما بين الفريقين اللبنانيين. لقد حملت الطوائف جميعها العلم اللبناني، ولم تستطع أن تنكره ولو للحظة واحدة. هذه مفارقة قلّ حدوثها في تاريخ الصراع اللبناني.
وطن بالضرورة

اكتشفت الطوائف اللبنانية على حين غرة أنها محكومة بهذا الوطن، وأن هذا الوطن هو ضرورة ولا مكان لأن يخرج أحد على هذه الضرورة. لذلك سعت جاهدةً إلى رفع العلم اللبناني محاولةً أن تقول: بما أن لبنان هو ضرورة لا مفر منها، فلماذا لا يكون لبنان على شاكلتي، لماذا لا أكون أنا لبنان؟! فكان أن الطوائف كلها رأت أنها هي، هي وحدها، لبنان، من الموارنة مؤسسي فكرة لبنان، والسنة أبناء المدينة الأولى وأصحاب الفضل في العلاقات مع المحيط العربي، وصولاً إلى الشيعة واعتزازهم بحماية الحدود الجنوبية، وبالمقاومة... فضلاً عن الطوائف الأخرى. حملت الطوائف علم لبنان، وكانت خبّأت تحت ثيابها أعلامها الحزبية الملونة، لتقول كل منها إنها هي صاحبة الفضل في صناعة لبنان، مذكرةً بإنجازاتها على مر تاريخ هذا الوطن. إلا أن المعضلة الأساس تكمن في أنه عندما يقع الإنجاز للطائفة، لا يمكن غير أبناء الطائفة أن يعتزوا به أو يفتخروا، حتى ولو كان لمصلحة الوطن. فهو ملكيةٌ حصرية للطائفة التي أنجزته. كما لا يمكن أيّ امرئ غير معتدٍّ بطائفته (علماني) أن يفتخر بإنجاز وطني، لأن كل الانجازات الوطنية مسجلة (copyright) باسم إحدى الطوائف الصانعة أمجاد الأمة، وحروبها. لذا لا يمكن أي فرد أن يكون ذا شأن، أو ذا كلمة، أو ذا صورة، في هذا البلد السعيد إلا عند انتمائه إلى طائفته، وهتافه معها، وحمله رايتها، وانضمامه إلى المليون الذي لن يصير بانضمامه إليه مليوناً وواحداً. فإما مليون وإما مليون ونصف مليون وإما مليونان. يصير الشخص اللبناني محكوماً بطائفته أولاً، كي يكون لبنانياً، فتبدو الطوائف أسيرةً للوطن الذي يحميها، ويحمي وجودها. ويبدو اللبناني أسيراً لدى الطائفة التي ترى فيه كونه واحداً من مليون. يختفي الحلم بالاستيحاد المرتجى. يختفي صوت فيروز من الذاكرة، كي ندخل عالم الأناشيد الحزبية على خلفية موسيقى عسكرية، وكل الجماهير تهتاج بالطريقة نفسها، وتشعر الشعور نفسه "بالكرامة، والعزة، والغضب". على هامش الكلام، واستطراداً، أورد محاولة أمبرتو إيكو في كتابه "الفاشية الأبدية: أربع عشرة طريقة للنظر في القميص الأسود"، حيث حاول أن يحدد مواصفات الفاشية على أنها "ثقافة التقاليد، نبذ الحداثة، ثقافة الفعل السياسي لأجل الفعل السياسي، الحياة صراع، الخوف من الاختلاف، رفض التعارض، بغض الضعيف، ثقافة الرجولة والماشوية، الشعبوية القيمية، دعوة الى الأكثرية الصامتة، الهوس بوجود مؤامرة، وجود أعداء أقوياء غير معروفين، التنشئة في سبيل البطولة...". بكل براءة أدعو القارئ الى أن يقارن بين هذه المواصفات ومواصفات الاتجاهات السياسية الطائفية في لبنان.

وطن لحماية الأقليات

هذه المواصفات التي ينطبق القسم الأكبر منها على جميع الطوائف اللبنانية، قادت البلاد المحكومة من طوائفها إلى أخطاء فوّتت عليها فرصاً كثيرةً ضائعة لتحقيق السلم الأهلي الدائم.تقودنا هذه الأخطاء التي ترتكبها الطوائف باسمها وباسم لبنان، إلى أن نقرأ في تاريخ لبنان وأزماته. فهذا الوطن الذي أعاد إنتاج نفسه مراراً، بعدما أوشك على الدمار مراراً، يجرّنا ويثبت علينا حجة أن هذه الأرض هي ارض ذات كيان مستقل. قد تكون الأخطاء التاريخية أدّت إلى هذا الحجم الجغرافي، إلا أن كلنا يعلم أن هذه الأرض لطالما كانت مختلفةً عن محيطها في النسيج الاجتماعي، والديني. وعندما نتكلم عن هذه الأرض لا نتكلم عن الحدود الجغرافية، بل عن ثقافة هذه الأرض التي استطاعت أن تؤمن الحماية على مدار 6 آلاف سنة لأقليات المنطقة، علماً بأن الفينيقيين كانوا أقلية، والسريان كانوا كذلك، وصولاً إلى المسيحيين والشيعة. كما أن هذه الأرض لطالما حافظت على هامش من التلاقي والتعامل الودي مع الجوار، ولا حاجة الى سرد تاريخي. إلا أنها (هذه الأرض) لم تستطع أن تكون مستقلة وموحدة لفترات طويلة. فلطالما تعرضت للغزو، إلا أن الغزو اضطر في المقابل الى الاعتراف باستقلالية هذه الأرض الذاتية. فهل يكون هذا كله يا ترى من باب المصادفة أم أن هناك ما يميز هذه الأرض ويجعلها وطناً ذا كيانٍ مستقل؟!قد تكون ميزة هذه الأرض، او بالأحرى ميزة السكان المتعاقبين على هذه الأرض، أنهم تمكنوا على مر السنين من إعادة إنتاج حمايتهم لأنفسهم، ومن إعادة إنتاج بقائهم في هذه الأرض. قد لا تمتلك بلادنا الكثير من إنجازات الدول العظمى والحضارات العظمى على مر التاريخ، إلا أن إنجازها الحقيقي أنها تضمن لسكانها - بكونهم أقليات المنطقة - حمايتهم لأنفسهم، وحماية تمايزهم الاجتماعي عن المحيط. إلا أن أزمة المجموعات الساكنة هذه الأرض، أنها ليست ذات صبغة إجتماعية، أو إثنية واحدة. أي أنها لم تستطع يوماً أن تبلور إحساساً قومياً جامعاً. لطالما كانت الجماعات التي تشكل الخليط الساكن في هذه الأرض، على قدر كبير من الاختلاف في ما بينها، وفي الوقت عينه على قدر كبير من الاختلاف عن المحيط. وقد يكون ما يجمع هذه الجماعات أنها كلها أتت إلى هذه الأرض بحثاً عن الحماية، كالشيعة والدروز والمسيحيين. ولطالما كان سنّة لبنان خارجين على الحاجة الى الحماية بسبب اتصالهم الموضوعي مع المحيط العربي. إلا أن اللحظة التاريخية التي تأتت من جراء استقلال لبنان المفروض بأمر من القوى العظمى (1943) أدت إلى أن يكون السنّة هم الآخرون إحدى الأقليات ضمن الأرض اللبنانية، عوض أن يكونوا الغالبية بالنسبة إلى المنطقة. بهذا، صار واجباً على سنّة لبنان أن يتصرفوا وفق مفهوم حماية النفس ذاته الذي تتصرف على أساسه الطوائف اللبنانية الأخرى.

وطن الفرص الضائعة

تشكل لبنان الحديث على أن يكون وطناً لحماية الأقليات التي تؤلف نسيجه الاجتماعي. إلا أن المعضلة الأساس هي في كون النظام اللبناني الناشئ قد قرر الأقليات على أساس طائفي، أي على أساس السلطات الطائفية التي كانت موجودة قبل قيام الدولة اللبنانية، وان بقاء هذه السلطات الطائفية على ما كانت عليه قبل نشوء الدولة اللبنانية جعل الحدود بين الطوائف أكثر أهمية بالنسبة الى السلطات من حدود الوطن اللبناني. أعادت الطوائف إنتاج مخاوفها، وإنتاج نظمها الحمائية كي تعيد انتاج بقائها كما درجت عليه عادتها. هذه المعضلة التي نشأت عليها الدولة اللبنانية من حدود خارجية مكشوفة، وحدود داخلية محمية، كان لا بد أن تؤدي إلى إعادة إنتاج الأزمات الداخلية والحروب الداخلية. وعندما نقول "حدود"، لا نعني الحدود الجغرافية فقط بل حدود القوانين، والسلطات، وحقوق المواطنة، وحدود الفرد في التزامه المواطنة. إذ نجد أن من السهل على الفرد اللبناني أن يكسر القانون العام، في كل شيء، لكن من الصعب أن يكسر العرف داخل طائفته. مثال على ذلك، من السهل على أي لبناني أن يشيّد بناء بلا رخصة، وعلى أرض ملك للدولة، لكنه لا يستطيع، وسيحارَب، لو تعدى على أملاك الأوقاف. يسهل على أي لبناني أن يلعن لبنان على صفحات الجرائد في كل مقال، لكن من المرفوض أن يهاجم طائفة من الطوائف اللبنانية. فوّتت الطوائف على لبنان خلال الأعوام الأخيرة فرصاً تاريخية لإنجاز هويته. حيث أن كل وطن مستقل يبنى على حدوده. أي أنه يبنى على حماية حدوده من كل تعدٍّ أو تغيير يؤثر في استقرار المجتمع والشعب. كان عاما 2000 و2005، مفصليين في تاريخ لبنان، حيث أن البلد الذي عاش طوال قرون على حدود غير قادرة أن تكون منجزة بالكامل، وغير قادرة أن تكون تابعة لمحيطها بالكامل، استطاع أن ينجز حدوده الجغرافية. إلا أن الطوائف، باتباعها عادتها في تنازع الفخر، لم تقبل على نفسها أن يكون أيٌّ من الانجازين (تحرير الجنوب، والانسحاب السوري) إلا للطوائف وحدها، بحجج مستوحاة من الأوصاف التي ذكرها إيكو. أنجزت البلاد حدودها الجغرافية، إلا أنها لم تنجز حدود المواطنة. فلا يزال السؤال عن الاحتلال السوري للبنان مدة 29 عاماً سؤالاً ممنوعاً لدى شريحة من اللبنانيين، فيما شريحة أخرى لا تزال ترى أن التعامل مع إسرائيل لم يكن خارج إطار حقوقها المشروعة في حينه. لم ننجز حدود لبنان لأننا لم نلغ حدود الطوائف. لأننا لم نتمكن من أن نضع العلم اللبناني على ساريته، عالياً فوقنا جميعاً، وأن نتناقش ونختلف من فوق الطاولة، كل حول صورته الحقيقية، أي حول الكولاج الذي سيصنع صورة الوطن. صورة الوطن لا تبنى إلا على حدوده، وعلى تناسب إنجاز حدوده مع مخاوف مختلف مكوّناته. فلبنان لا يمكن أن تكتمل فكرته كوطن عربي ذي طابع مختلف عن محيطه الاسلامي البحت، إلا إذا أنجز المسيحيون فكرة عروبتهم، وتالياً فكرة عروبة لبنان، بما يضمن أن لا يذوب في محيطه. كما أن حاجة الجنوبيين (غالبيتهم من الشيعة) الذين كانوا المعنيين بالاحتلال الاسرائيلي إلى ان يحددوا شكل العلاقة (شكل الحدود) مع إسرائيل، تعطي الأهمية لكون الجنوب، والحدود الجنوبية قد تحددت على يد مقاومة شيعية في مرحلتها الأخيرة، وإن يكن القسم الأكبر من لبنان المحتل من إسرائيل قد تحرر على أيدي مقاومة وطنية ذات طابع علماني. كما أن انضمام الفريق السني إلى معركة دفع الجيش السوري إلى الانسحاب من لبنان، ينطوي على أهمية خاصة، باعتبار أن سنّة لبنان هم المعنيون الأول في العلاقة مع المحيط العربي (السني في الغالب). مع الإنتباه إلى أن معركة كبيرة خاضها أطياف من المجتمع اللبناني بدأها اليسار اللبناني في 1976، وصولاً إلى الجبهات المسيحية. إن تحقق هذه الانجازات الثلاثة، لا يستطيع أن يبقى في حدود الطوائف. فعندما يبقى تحرير الجنوب قيد الشيعة، والتمايز عن المحيط قيد المسيحيين، وتحديد الحدود الشرقية والشمالية قيد السنّة، يصير كل من هذا التحرير، وهذا التمايز، وهذه الحدود، عبئاً على بقية الطوائف، بما هي حجج استقواء من الطرف الذي يمتلك الانجاز. هذا الاستقواء أدى إلى تفويت الفرصة على لبنان بأن ينجز صورته، وأن ينجز حدوده. أعود إلى ما بدأت به. عندما أدخل إلى صالة السوق الحرة، وأشهد الهدوء وتحقق فرديتي، كما هي حالي عندما أدخل إلى حفل لفيروز، فإني أدخل إلى الحلم باستيحاد مرتجى. أن أخرج على خضم الطوائف. أن أمتلك في يدي إنجازي بأن أكون متمايزاً عن محيطي، وبأن أكون مستقلاً عن سوريا، ومتحرراً من إسرائيل، وخارجاً على حدود الطوائف. إن كان ثمة مكان لخطاب سياسي لبناني يستطيع أن يبني للبنانيين هويتهم وصورتهم، فهو في الضرورة خطابٌ يأتي على شاكلة غناء فيروز، أي أنه خطاب يحس كل فرد أنه موجه إليه. إليه وحده. خطاب يبني لحدود الدولة لا لحدود الطوائف. خطاب يستطيع أن يجمع الإنجازات اللبنانية في بوتقة واحدة، أن يجمع اختلافات اللبنانيين ليصنع منها كولاجاً، فيصير الكولاج هو صورة لبنان. وطنٌ حيث يختلف فيه الأفراد كثيراً، لكنهم ينعمون بمساواة في الحماية. إن كان لبنان وطناً لحماية الأقليات، فحماية الأقليات ليست في تسليط الطوائف على مقدرات البلاد، ولا في احتكار الانجازات والاستقواء بها من طائفة على أخرى، ولا في إنكار الانجاز لمجرد الرغبة بمهاجمة طائفة أخرى. وطنٌ حدوده واحدة، وأكرر عندما أقول "حدود" فإني لا أعني الحدود الجغرافية فقط. وطنٌ للغواية، حيث كل شيء موجود، لكن لا أحد يدفعك الى الشراء. وطنٌ تستطيع أن تنتقي فيه خيارك السياسي والحياتي، لا يحكمك به منذ الولادة وتبعاً لنسبة الحيوان المنوي الذي تسبب بولادتك. قد يكون حلماً، وقد قلت إنه حلم. لكن هناك أناسٌ قبلنا تجرأوا على الحلم، وحققوه ■

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .