الاثنين، 4 أغسطس 2008

لست ابنك يا ابي

انا البواب

بلال خبيز

قد يكون ما جرى بالنسبة للكثيرين بداية. بداية عهد جديد مختلف عما سبقه، قد يسير نحو الأسوأ او الأفضل، لكن فضيلته أنه يسير. ذلك ان ما يفرق البدايات عن النهايات، ليس إلا واقع ان البدايات تجر الجميع خلفها، لأنها اولاً حبلى بالمفاجآت، ولأنها ثانياً تسمح بدوال الدول والأشخاص، ولأنها اخيراً مراهنة على الزمن: على تعب محاربي اليوم، وفتور حماسة الجماهير والأنصار، ونضج قادتهم وشيخوخة بعضهم. مؤتمر الدوحة، كان بداية للبنان. لكن ما جرى بالنسبة لي في تلك الحوادث وما تلاها، كان نهاية قاطعة.
لم يكن الأمر ان موقعاً الكترونياً يحرره بضعة اشخاص غفلين اتهمني بالعمالة. هذا كان جزءاً من الأحجية. ولم يكن امر ابلاغي بأن ثمة من قرر تصفيتي هو العمدة في تقرير ما آلت إليه الأمور. فهذا ايضاً ضلع آخر من اضلاع المعادلة. لقد نشر موقع "فيلكا" تلك القصة الخرافية، لكن جمهور المؤمنين بأنهم اشرف الناس، ولا حجة عليهم ولا ذنب ولا هم يحزنون، تعامل مع التهمة كما لو انها الجزء الطافي من جبل الجليد، الذي بدأت اجزاء اخرى تطفو منه، في موقع "فيلكا" نفسه، بسبب حرارة التهمة، ربما. جمهور قرر ان موقعاً غفلاً احق بأن يصدق من عذابات رجل واحد على مدى ربع قرن. جمهور، بات في وسعه ان يكذبني في ما اعرفه ولا اعرفه. فأنا لم اعتقل في اسرائيل حتى لو ابرزت للدنيا كلها الوثائق التي تثبت هذا الامر. وانا لم اقاتل اسرائيل، لأن حزب الله لم يمنحني شهادة تثبت انني قاتلتها، ولأن مدرسة قتال اسرائيل بدأت مع حزب الله وستنتهي معه. انه اعتداء على تاريخ البلد، ما زال يمارس على مرأى ومسمع كل الناس، لكنه ايضاً بالنسبة لي اعتداء شخصي بالغ الخطورة. بت أفكر، إذا كان ما فعلناه من امر مقاومة اسرائيل تضحية من اجل هذا البلد، فأين تدفن هذه التضحيات؟ ومن الذي يدفن معها؟
ايضاً هذا جزء من الرواية. الرواية الأخرى تقول، انني صحافي في جريدة "النهار". اكبر الجرائد اللبنانية واوسعها انتشاراً واكثرها عراقة في الديموقراطية. جريدة "النهار" نفسها التي قارعت الوجود السوري ردحاً، والتي حصّلت بعض صيتها الحسن وسمعتها الطيبة في البلد، من مقارعة هذا الوجود. في هذه الجريدة، يوم كنت اكتب معترضاً على الهيمنة السورية في البلد على مدى سنوات التسعينات، كان الخلص من الأصدقاء يحذرونني يومياً. في تلك الأيام كان الخوف عميماً ايضاً، وكان سيف القمع والاغتيالات مسلطاً من دون رقيب او حسيب. لكنني كتبت في ما كنت اراه حقاً، وساجلت مدافعاً عن قناعاتي. في تلك الأيام الحالكة، كان ثمة قلائل، اقل من اصابع اليد الواحدة، ليس في النهار فحسب، بل في لبنان بجناحيه المهاجر والمقيم، يكتبون في الاعتراض على الهيمنة السورية، وكنت واحداً منهم. يومذاك كان مثل هذا الرأي يلائم هوى في نفوس بعض من في يدهم السلطة في "النهار"، فلم امنع من الكتابة. لكنني وبسبب مقالة واحدة، تعرضت لشتى انواع الضغوط. هكذا وجدت نفسي، ملاحقاً من جماعة نمي إلي انها تريد قتلي، وممنوعاً من الدفاع عن نفسي في "النهار" الحرة، وملاحقاً بشائعات تتنتشر في البلد طولاً وعرضاً، وليس ثمة من يبدي استعداداً ليتصل متضامناً. بل ان بعض كتّاب النهار اسر لبعضهم الآخر: ما فعله بلال جريمة: لقد وجد اسماعيل كبشه! مع ذلك، كان يمكنني ان اعتبر ان لكل مشوار نهاية وان مشوراي مع النهار وصل إلى نهايته.
لكنني ايضاً كنت موجوداً هنا. اناضل، لا نوم ولا طعام، ليس لخوف او لقلة شهية. بل لأنني كنت اسابق الوقت علني اجد من يمد يداً متضامنة. لم اكن اريد حماية من اغتيال، ولا رداً للشائعات. كنت فقط اريد منبراً يسمح لي بالدفاع عن نفسي، ورزقاً شحيحاً، كمثل الذي كان يتقطر من "النهار" الحرة، وهو اقل القليل، لأستطيع البقاء والصمود. في الأثناء، بعت كل ما املك. بت عارياً تماماً، من دون بيت، ولا سيارة، ومهدداً بتوقف المورد الشحيح الذي تبقى لي. كانت فوضى عارمة، وكنت استطيع ان اعذر من لم تسعفه يداه. وقلت ان الوقت كفيل بحل كل المشكلات، فقط علي ان اغيب عن الصورة بضعة اسابيع، وبعدها تعود المياه إلى مجاريها، وينحسر السيل.
لكنها لم تعد. بل انني بت متهماً من الجهة الأخرى التي كان يفترض بها ان تدافع عني: هذا موقع سخيف، وكتب ما كتب، واتهم الناس بالجملة. لكن بلال خبيز خاف وآثر ان يهرب. والحق انني هربت فعلاً. انما لم اهرب من "فيلكا" اسرائيل ومولانا "العربي الغاضب". هربت لأنني بت ابكماً. ولأنني ممنوع من الكتابة، ولأنني هاتفت كثيرين عارضاً خدماتي في ان اكتب لهم، لكن معظمهم لم يرد على اتصالاتي. ولأن مؤسسات الدفاع عن الصحافيين التي تحصل على تمويلاتها للدفاع عن الصحافيين، كانت في ذلك الوقت مشغولة بعروض الأفلام وتوزيع الجوائز، على صحافيين طبعاً. وهربت ايضاً، لأنني بعد عقود من العمل اميناً لتحرير اشهر مطبوعة ثقافية في البلد، اضطررت لأن اقبل نقوداً من ابي الذي جاوز السبعين. ابي الذي يعمل سائقاً والذي يعتني بأمي المريضة وحده، والذي لم استطع ان امد له يد العون طوال زمن جاوز العقد، منذ ان اصبحت رواتبنا هي الثابت الوحيد في سياسة الصحف اللبنانية، ابي هذا، هو الذي هربت منه. هربت لأنني لم اعد اجرؤ ان انظر في عينيه. كيف في وسعي ان اكون ابنه، هو دائماً كان ابي، لكنني اثبتت انني لم اكن ابنه.
وهربت ايضاً، لأن قادة 14 آذار كانوا مشغولين، عما انا فيه من ضيق وحسرة، بانتصار الدوحة السياسي. وفي غمرة الانشغال نسوا جميعاً تحية البواب. كنت بواباً افتح الأبواب المغلقة، وما ان تفتح ويبين ما خلفها حتى يتسابق الجميع إلى دخولها. وابقى في الخارج. هكذا احتفل اللبنانيون بخروج الجيش السوري من دوني. واحتفلوا بخروج الجيش الإسرائيلي من دوني، واحتفلوا اخيراً بالنصر في الدوحة من دوني. يومها كنت حائراً، شأني امام كل احتفال من تلك الاحتفالات: من الذي انتصر على البلد؟ والآن بت اعرف انهم جميعاً انتصروا عليه.

هناك تعليق واحد:

eyespy يقول...

جميل جدا يا بلال.

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .