الخميس، 28 أغسطس 2008

حكاية كحكاية بلال

حكاية كحكاية بلال خبيز
ماهر شرف الدين

عندما يشتمون لبنان يقولون: صندوق بريد.وعندما يمدحونه يقولون: رسالة.***لم يُخيَّر لبنان بين أن يكون صندوق بريد، أو أن يكون رسالة. فهو كلاهما معاً: الأداة والغاية. العميل والرمز. ساعي البريد والرسول. العبد والنبي... وعبر لعبة البينغ بونغ هذه، اكتسب هذا الكيان خصوصيّته (القاتلة والبرّاقة) في محيطه العربي الأكثر بؤساً منه.بحذف كلمة "لبنان" ووضع كلمة "مثقّف"، نستطيع إيجاد العتبة لولوج الحكاية.بلال خبيز، الشاعر والمثقّف والصديق، نجح موقع الكتروني مشبوه اعتاد تلفيق الاتهامات السياسية ضدّ المثقفين، في تهجيره من لبنان عبر اتهامه بأنه "جاسوس إسرائيلي"، بل وبأنه المراسل السرّي لصحيفة "هآرتس"، مع تلميح صريح موقّع بأسماء مستعارة بإمكان تصفيته (الجسدية).بالطبع، مثقّف أعزل كبلال خبيز عليه مواجهة قَدَره بأحلى الأمرَّيْن: إما الهجرة إلى خارج لبنان (وهذا ما فعله)، وإما العيش فيه مع هاجس أنه مقتول في أي لحظة. مثقّف حرّ؟ إذاً فليتدبّر رأسه وحيداً مع حرّيته. الحرّية تبدو هنا - ويا لليأس - كبديل عن الحماية التي يمكن أن يتمتّع بها أي ميليشيوي أو متحزّب أو طائفي.أنت حرّ بقدر ما أنت وحيد. أنت حرّ بقدر ما أنت أعزل.المستفزّ في حكاية صديقي بلال أنه يُهجَّر، وهو الأسير السابق في السجون الإسرائيلية، في حين يُعَيَّش لبنان "عرساً" بعودة أسراه.ثمة أسير بطل وأسير عميل. ثمة أسير عريس وأسير مُطلَّق.بالطبع، المسألة أبعد، وأخطر، من حكاية "الصيف والشتاء تحت السقف الواحد" الممجوجة، فهذا يصحّ بين أحزاب وطوائف متصارعة، لا بين طوائف مسلّحة وفرد أعزل. فكأي مثقف متصالح مع نفسه، قطع بلال خبيز مع طائفته منذ بداية مشواره، كما عاد وقطع مع الحزب الذي كان انتمى إليه (الحزب الشيوعي) وقاتل في صفوفه بعد قيامه بعملية نقد ذاتي وجمعي. ناهيك بأنه ليس لديه ما يقطعه مع "زعماء" الثقافة لأنه لا يجيد التزلّف إلى أحد لحمايته والإغداق عليه. على هذا النحو يصبح المثقّف حرّاً وأعزلَ في آنٍ واحد. على هذا النحو يُترك المثقف لمصيره.حكاية كحكاية بلال هي دليل على الشبه المريب بين قَدَر المثقّف الحرّ في بلادنا وبين قَدَر كيان "فجّ" كلبنان في هذه المنطقة. إنه العيش في بقعة الاشتباه الدائم والريبة الدائمة: الثقافة رسالة، لكن هؤلاء المثقّفين صناديق بريد. الثقافة سموّ، لكن هؤلاء المثقفين عملاء... وهكذا دواليك.والحقّ أن طَرْق مثل هذا الموضوع لا يكتمل من دون الالتفات إلى الجامع الأهم: الأنثويّ. ونقصد بذلك المُعطى سلبياً - مجتمعياً - إلى الأنثى. "قوّة لبنان في ضعفه"، المقولة الشهيرة عن لبنان، والتي تصحّ في وجه من وجوهها على المثقف، هي في أصلها تحريف سياسي لبيت شعري شهير قيل في المرأة قديماً، يرى مكمن قوّتها في ضعفها: "يقتلنَ ذا اللبّ حتى لا حراك به/ وهنّ أضعف خلق الله أركانا" (جرير).وكما المرأة، في المجتمعات الذكورية المريضة، جُعلت رمزاً وشيطاناً في الوقت نفسه (دينياً، حكاية التفاحة والغواية تمثّل الشيطان (السلبي) الذي فيها من جهة، في حين تتكفّل حكاية البكارة والشرف والعِرض تمثيل جميع القيم الذكورية (الإيجابية) المزعومة التي يقع عليها عبء حملها)... أقول وكما المرأة جُعلت رمزاً وشيطاناً في آنٍ واحد، كذا جُعل لبنان، وجُعل المثقّف.هذا المثلّث (المرأة - المثقّف - الأقليّات) كان طوال تاريخنا ضحية الكذب المنظوميّ الذي قامت عليه جميع بُنانا المعرفية والاجتماعية والسياسية والأُسرية... وأمام هذا الركام الهائل من الكذب التاريخي، يحتار المرء مَن مِن كذّابَي الرواية الشهيرَيْن يُصدّق: "باودولينو" (إيكو) الذي يقول: "إذا أردت أن تكتب ذات يوم أخباراً، سيتوجّب عليك أن تكذب، وأن تختلق بعض الحكايا، وإلا كان تاريخك مضجراً"، أم "مونشهاوزن" (راسب) الذي أقسم بأغلظ الأيمان في ليلته الثامنة بأنه رأى سمكاً يعيش في مياه بدرجة الغليان؟!
"الغاوون"، العدد السادس، 1 آب 2008

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .