الاثنين، 14 يوليو 2008

عن ملحق النهار البيروتية

اتقان النوم

بلال خبيز

اجلس خلف طاولة مقهى. المقاهي تبدد العزلات. الندل في كل مكان يشبهون بعضهم في مكان ما. يحيونك ويرحبون بك. وحين تكون الدنيا ضيقة والسماء قريبة وتكاد تلامس دماغك، لن تجد افضل من كرسي في مقهى كي يخرجك من العزلة. العزلة، الصوم عن الكلام، النساء اللواتي يبدين بعض اللطف حيالك، لكنك تعرف ان وقتك ليس ملكك، وانك مسافر بعد حين. وان قلبك ليس مستعداً لأي انكسارات اضافية. ثم انك تملك الوقت كله ولا تملك وقتاًً. لا شيء تفعله منذ الصباح، ولا الليل يحمل معه بعض السلوى. وقت يستطيل إلى ما لانهاية، لكنه لا يتسع لصديق جديد. الصداقات تحتاج منا معاهدات على ما تبقى من اعمارنا. وانت لا تملك ان تعاهد على ما تبقى من نهارك. غداً او بعد غد، ستترك هذا المكان. هذه المدينة، لا سبب يدعوك لزيارة اثارها الكبيرة. لأنك لن تعرف لمن سوف تقص مشاهداتك فيها. ولأنك لا تملك الحق في ان تكوّن انطباعات حاسمة. ولا ان تجري مقارنات ذات معنى. القاهرة اعرق من بيروت. هذا ما كنت تعرفه من قبل، لكن السؤال المضني والمؤرق ليس اقل من: من هي بيروت؟ هل ما زالت بيروت مدينة ترى العالم من زجاج نافذتها؟ هل ما زالت مدن العالم كلها مجرد فنادق تمضي فيها ليلة وتعود إلى المدينة الأم؟ ما الذي تبقى من بيروت؟ اصدقاء يستشعرون غيابك؟ ربما، وربما انت لهذا السبب تتجنب الاتصال بهم مرة اخرى. كلما كان القاطن في بيروت قريباً منك، كلما اصررت على قطع كل صلة به. بيروت، حيث كنت انام. بيروت التي نمت فيها نصف ايامي وربما اكثر، لم تعد بيتاً وانا لا انام. نحن ننام لأن ثمة في النوم ما يقربنا دون عناء من اليوم الذي نعود للنوم فيه في المدن التي ننتمي إليها. المدن التي لسبب او لآخر تشعر انها المكان الذي تحسن ان تنام فيه. النوم الآن صعب ومتعسر، ذلك ان الوقت يتطاول قبل النوم وبعد النوم. ها انا الآن افكر انني نمت كثيراً لكنني لا اعرف ما الذي يمكن ان تصنعه يداي في يقظتي. هنا لا اجد ابرة وخيطاً، ولا اجد مطرقة او مقدحاً. هنا كل شيء يشبه النقود الورقية. عارض ومرموز ولا قيمة له في حد ذاته. حتى الترحيب الذي تلقاه من عامل المصعد في الفندق لا يحمل على محمل الترحيب. انه مجرد شكليات لا قيمة لها. الترحيب الذي تريده، والذي يريده اي كان، هو الترحيب الذي يجعلك تشعر بوجودك، لأن المرحب بك يعني ما يقوله حقاً. لكنك مجبر على تطلب مثل هذا الترحيب. المرأة التي تنظر إليك معجبة في هذا المكان، هي المرأة التي تريد ان تثبت شيئاً لنفسها. انت عابر وطالب شربة ماء، لكنها باقية هنا ولن تذهب معك. لن تتخلى عن النوم العميق لتهرب إلى حجيم الوقت الذي انت فيه. انت وحدك في هذا الجحيم، وليس لهذا النفق من آخر بعد.

اقول انني سأعود إلى بيروت. سأعود قريباً. لكنها بيروت التي طردتني. طردتني مثلما تفعل المدن عادة، تطرد ابناءها بالغلظة نفسها التي تستقبلهم فيها. وعليك منذ ان تطأ قدماك مطارها ان تعيد تعريف نفسك الف مرة في اليوم. انت هارب ومنفي في الوقت نفسه. هارب لأنها طردتك ومنفي لأنك تريد العودة إليها ولا تجد السبيل. بيروت تطردك. وانت تحبها. وان تحب مدينة ليس امراً يشفع لك عندها. المدن قاسية وجافة حين تريدها مرحبة ومضيافة. ومضيافة وكريمة حين تريد مغادرتها. المدن لا تفصح عن مشاعرها حيالك إلا لحظة الوداع. وانت خرجت من بيروت كما لو انك لص يبحث عن مخرج سري. خرجت لأنك لم تعد تريد مواجهة احد ولم تعد تريد مناقشة احد. اصلاً لم يكن ثمة من يريد مواجهتك. كانت الامك قد كبرت وفاضت عن قدرة اي كان ان يستمع إليها. كانت الامك فائضة إلى الحد الذي لم يعد ثمة من يستطيع مساعدتك. غادرت كلص، وستبقى في بيروت لصاً مهما حاولت ان تدافع عن نفسك. الناس لا تستطيع ان تهزم المدن. تستطيع ان تكرهها، ان تفكر انها لم تعد هي نفسها، لكنها لا تستطيع هزيمتها. لك ان تكبر في المنفى، ان يشيب شعرك وتكل يداك، لكنك حين تعود لن تستطيع ان تشعرها بالندم على ما فعلته بك. المدن قاسية، وانت اخترت ان تكون عاشق مدن. فلتتحمل ما جنته يداك.

في هذه الغرفة، ثلاثة كراس، كرسي للعزلة واثنان للصداقات. لم اعد اجالس كرسي العزلة، وليس ثمة اصدقاء هنا. هذه الغرفة معدة فقط لنومي. وانا سوف اتقن النوم.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .