السبت، 12 يوليو 2008

بيروت الثالثة

بيروت الكلمة الأم

تنشأ في الغفلة و العسكر ينزع روحها

بلال خبيز

الكلمة. بيروت ككل مدينة، هي مدينة متكلمين. سكانها منشئو كلام. ويصعب وصف بيروت إلا بوصفها مدينة كلمة. ليس بالمعنى الذي يجعل كل من يعيش فيها صاحب رأي وحسب، بل بالمعنى الذي يجعل المدينة نفسها مبنية على الكلام. والكلام، منذ زمن بعيد لم يعد يصنع امجاداًً ولا يرفع هياكل. الكلام لم يعد يقتنع بخطورته غير صنفين من البشر: القادة المعصومون والاطفال الرضع. فالرضيع، بالتجربة، يكتشف ان للصوت الذي يطلقه مفعولاً مباشراً، فما ان يطلقه حتى تهب امه لتلبية حاجاته والوقوف عند رغباته. والقادة الملهمون، ايضاً، يظنون ان في وسع الكلام ان يصنع ثورات، ذلك انهم تسيدوا بقوة الحجة، على ما يحسبون.

لا بد ان القادة يعجبون للسبب الذي يجعل من يخالفهم الرأي يخالفهم الرأي. لقد قال القائد الكلمة الفصل ولم يعد ثمة من حاجة لأي كلام. كل كلام بعد القول الفصل يصبح تآمراً او تجديفاً او تدليساً. فمنذ البدء لم يكن غير كلمة واحدة والباقي الفاظ وتنويعات على الكلمة الأم.

اغلب الظن ان مدينة مثل بيروت لا تستطيع ان تستكين لمقتضيات الكلمة الفصل. فالمدن عموماً تحب التدليس والتجديف والتآمر، وتستمتع باحاديث النميمة والغيرة. وكل صنوف الكلام هذه مخزونة بين جدران المدينة وهي تعرف ان متكلمين كثراً مروا في شوارعها، وظنوا يوماً انهم يملكون سر الكلمة ثم ما لبثوا ان اعتذروا شعراً وغناء. اعتذروا لانهم جرحوها، وخمشوها، و"قد يخمش الغرقى يداً تمتد لتحمي من الغرق". لكن هذا يفترض انهم غرقى وان كلمتهم هي كلمة الوداع، او النجدة. لكنها لن تكون ابداً الكلمة الأم.

لنفكر قليلاً. ماذا لو صدق ظن حزب الله وكان تيار المستقبل يمتلك ميليشيا مدربة بأعداد غفيرة. وكان ان قرر قادة هذا التيار مقاومة قوات حزب الله بالحديد والنار؟ هل كان حزب الله لينتصر؟ هل كان اي كان لينتصر اصلاً؟ كيف ننتصر على انقاض عاصمة؟ واي عاصمة، انها بيروت. ما الذي يجيده المقاتلون اصلاً، وما الذي يخشى عليه المواطنون اساساً؟ المقاتلون يجيدون تخريب البيوت والابنية، وقطع الطرقات بالقنص او السواتر الترابية، والمواطنون يخشون ان يستفيق الواحد منهم ويهم بالذهاب إلى عمله فيجد ان ما كان حتى الامس طريقاً بات اليوم خط جبهة ساخن. المقاتلون يحتلون ليل المدن، وينتشرون تحت ستاره. والمواطنون يريدون الليل غياباً عن كل شيء، ودخولاً في كهوف النوم. والمقاتلون يوقظون النيام لكنهم يمنعونهم من العمل بمقتضى كونهم يقظين. يريدون ان تصبح بيوتهم مخابئ لا مهاجع. وهم ينجحون في ذلك ما ان يشد واحدهم اصبعه على الزناد ويطلق طلقته التي تغير وجه الليل. المقاتلون يأتون إلى المدن، وينتصرون عليها، فالمدن دوماً ضعيفة وتعجز عن الصمود، إلا إذا قرر اهلها ان يتخلوا عن اعتبارها مدينة. ولهذا لم يكن المقاتل يوماً صديقاً للمدن. حتى وهو يريد حفظ امنها. بيروت، لن نقول انها استبيحت، ولن نقول انها هزمت، ولا ان ثمة من احتلها، لكن ذلك لن يغير في ما جرى شيئاً. اساساً لا يتصل الامر بالسياسة ولا يتصل ايضاً بمواقع النفوذ. الأمر متصل اتصالاً جوهرياً بمعنى ان تكون المدينة مدينة، وبشروط انوجادها. ذلك ان المدن كالكلمة في وسعك ان تسد اذنيك وتعزف عن سماعها، فتموت في حلق مطلقها. ويكفي اقفال شارع واحد من شوارع المدينة ليجعل الشك بوجودها قائماً ومشروعاً. المدينة لا تسلس قيادها للإرادات. تهجر دفعة واحدة، ولا تعود. وحين تود استعادتها، بعد ان تؤول الامور إليك تكتشف انها اختفت ولا تعود. والمدن لا تحب القوانين ولا حالات الطوارئ. وهي لهذه الأسباب تقيم اسواراً من حولها، ولهذه الأسباب تقع الحروب خارجها، على الحدود وفي الجبهات وقمم الجبال، وما ان تصل الحرب إليها حتى تكون الهزيمة قد حلت بأهلها، وبات عسكرها مكسوراً وممزقاً في الفيافي والجبال. المدن تستسلم، لأن القتال لا يحصل إلا عند اسوراها. وحين يتحول القتال إلى شوارعها الداخلية لا تعود المدينة مدينة، وتهاجر منها كل صفاتها. العاصمة المعرضة للقصف ليست عاصمة، والبلد الذي تتعرض عاصمته للقصف يجب ان يقر بالهزيمة. لكننا استطعنا ان ندعي النصر ونحن نحارب في شوارعها، وان ندعي حب بيروت ونحن ندفعها دفعاً كي تهاجر. لا اناصر طرفاً ضد طرف في هذا المجال، لكن احتلال المدينة، كائناً من كان المحتل، يكون آخر سطر في سيرتها. بعد الاحتلال، تتحلل المدن وتصبح مجرد احياء متضامنة ومرعوبة وغير مرحبة. وسرعان ما يتحول العيش الوادع في المدينة إلى ضرب من العنف الذي يهزم المحتل حكماً لكنه يخرج المدينة عن صورتها وينثرها اشلاء في الهواء.

منذ متى كان المقاتلون ييبنون مدناً او يحق لهم ان يعسكروا في احيائها. ومنذ متى تكون المدينة مدينة حين تكون مرتعاً للجيوش والعساكر؟ المدينة والجيوش نقيضان لا يلتقيان، ما ان يظهر الأول حتى تختفي الثانية، وعليك ان تخفي الأول ليتسنى لك ان تعيد بناء الثانية. وكثيراً ما تهجر المدن الجغرافيا في هذه الحالات، فتتحول جغرافيتها ميدان حروب، لكن عاداتها وعلاقاتها تنتقل إلى مكان آخر.

لم تهدم المقاومة بيروت، ولم تخرب ابنيتها وتحفر شوارعها، لكنها اخرجتها عن طورها. ولم تعد بيروت هي بيروت. ذلك ان الأبنية الفخمة لا تصنع مدناً وحدها، هذا ما كنا نعرفه منذ زمن في حالنا اللبنانية المقيمة على الحروب، وهذا ما اعاد مقاتلو حزب الله تثبيته مرة أخرى، ربما هي المرة الألف.

بعد انتهاء الحرب الاهلية كان سجال يدور حول سبل استعادة بيروت التي كانت قبل الحرب. وكان ثمة رأي يقول ان المدن لا تستعاد، وان جهداً مشتركاً قد يصنع مدينة لكنه لا يعيد احياء مدينة حلت بها الحروب. لذلك كان البعض منا يقول اتركوا انصاب الحرب شاهدة على ما جرى، فذكرى بيروت التي رحلت مع حلول الحرب الأولى في وسطها عام 1975 افضل من نسيانها وطمسها وبناء مدينة جديدة على ركامها.

بيروت تلك ماتت ولم تعد، لكننا ارتضينا، ولأسباب لا تحصى، ولأننا اصلاً لا نملك خيارات كثيرة، ان تبنى بيروت جديدة. وفي هذه البيروت صنعنا نجوماً ونصبنا قادة وخلقنا جماهير. وفيها ايضاً مرة اخرى، بحت حناجر فتية في تظاهرات غاضبة، وسارت اقدام غضة في مسيرات حاشدة، ونام شبان متحمسون في ساحاتها احتجاجاً، وكلهم كانوا يطلقون صرخة واحدة: اننا نصنع بيروت الثانية او الثالثة او الألف. هي مدينة اخرى غير تلك التي غبرت، لكننا نريد ان نسميها بيروت.

حتى هذه البيروت التي بنيت على عجل، والتي لم يسعفها الزمن لتمحو بعض ذكرى المدينة التي قامت على انقاضها، تعرضت مرة اخرى لاحتلال المقاتلين، وما ان وطأت اقدامهم عتباتها حتى كانت المدينة نفسها تهاجر، ونحن نعرف انها لن تعود.

يستطيع السياسيون الادعاء ان هذه الحرب التي خيضت من جانب واحد لم تدمر بيروت. فحين تمنع بعض السياسيين عن مواجهة بعضهم الآخر بالنار والحديد جعلوا احتلال المدينة سهلاً ومن دون خسائر جسيمة. لكن السياسيين لا يعرفون المدن لأنها تنمو وتنشأ في غفلة عنهم. اصلاً تنشأ المدن في غفلة عن القانون وعن اعين الرقباء والعسس واجهزة الأمن. تنشأ في اللحظات التي يكون فيها القانون نائماً واجهزة الامن مشغولة باعداد تقاريرها. وفي لحظة يكتشف هؤلاء جميعاً انها خرجت عن طوعهم وباتت عصية على التطويع، تحت حد القانون وعين الرقيب. تتحول المدينة التي تنشأ في الغفلة هذه محجة هؤلاء وحجتهم، ومصدر قلقهم ورعبهم. السياسيون يفضلون دائماً ان تكون الامور مفهومة مثل إشارات السير، لهذا يشتبهون بالكلمة الجديدة، والفن الجديد، ويدققون النظر في كل ما يجري في حنايا المدينة. لكنها تغلبهم بتنوعها ومصادفاتها إلى الحد الذي يصير القانون معه فلسفة وربما فناً، ولا يعود مجرد مواد جافة على النحو الذي كتب فيه. وإذا كان السياسيون يشتبهون بكل ما هو مديني، فإن وسيلتهم المضمونة لتهديم المدينة وهزيمتها وطرد مصادفاتها تختصر بالعسكر. العسكر الذي ما ان يحل في مدينة حتى يفقدها روحها. والامر لا يتعلق ابداً بعدد القذائف التي تسقط على رؤوس الأبنية، ولا بعدد الضحايا الذي تتلف ارواحهم على الطرقات العامة، بل يتعلق بمجرد الحضور. حضور العسكر ينفي روح المدينة عنها ويمنع هواؤها من التحرك.

لهذا لم يكن غريباً ان يلجأ المقاتلون الذين احتلوا هواء بيروت إلى اقفال صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية. لأن الكلمة اشبه ما يكون بمتاهة المدينة التي لا تنفع معها خرائط العسكر. العسكري يعرف ان شارع الحمراء يمتد على بضع مئات من الأمتار، وهو يستطيع ان يحسب بدقة وسهولة الكمية اللازمة من القذائف والرصاص لتدميره عن بكرة ابيه، وافناء كل روح فيه، لكن شارع الحمراء ليس بضع مئات من الأمتار، وصفوف قليلة من المباني. انه شارع يقال فيه كلام كثير ومتنوع، ويعيش وفق قوانينه المعقدة والتي تخصه، ولا تمت إلى القوانين العامة بصلات كثيرة. وبين زمن العسكري وزمن شارع الحمراء الذي يعرفه من يعيش زمن شارع الحمراء ثمة فارق كبير هو الفارق بين الحياة في المدن والموت. ذلك ان المدن من دون هذا التعقيد الذي يغلف قوانين عيشها، والذي يصنع مصادفاتها من امزجة واهواء لا تحصى ولا يمكن حصرها، تصبح قفراً ومن دون حياة. فالمباني التي تصطف على جانبي اي شارع مديني اشبه ما تكون بتوابيت حجرية ثابتة. لكن سرها وسحرها يكمنان في ان موتى هذه التوابيت يغادرونها كل وقت ويعودون إليها مطمئنين كما لو انها ليست توابيت من حجر. وبطول التجربة والمراس لا تعود التوابيت تصدق نفسها انها توابيت، وتتحول فجأة إلى بيوت لها ارواحها واشباحها. لكن حلول العسكر في المدينة يعيد المباني توابيت، ويصير كل من فيها موتى حتى لو كانوا لا يزالون يستهلكون هواء كثيراً وتلمع عيونهم امام مشاهد القصف وتسمع اذانهم ازيز الرصاص.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .