الأحد، 27 يوليو 2008

بلال خبيز عن ملحق النهار البيروتية 27 تموز2008 يبكونها مغادرين ويرجمونها عائدين-بيروت أندلسُ أجيالها

يحدّثونك في القاهرة عن الزمن الجميل. ذاك الذي مضى ولن يعود. هذا ما يؤمن به اهل القاهرة، لكنهم يعملون ويكتبون! ويقرأون كأنما يفعلون ذلك بلا أمل. الكتابة والفنون وحتى السياسة في العالم كله، باتت اليوم تعاني من ندرة المجد. ثمة متاحف تغصّ بساكنيها. بل ان بعضها يخزّن في الطبقات السفلية اعمالاً فنية تزيد حجماً واهمية على تلك المعروضة في اروقته وافنيته. المجد صار شائعاً، ومع شيوعه على هذا النحو الواسع، بات المرء لا يحسن ان يتنبأ. وإذا ما ارتضينا اكتشاف بول اوستر لوظيفة الكتابة، في انها ليست اقل من تنبؤ، اصبح مفهوماً ما الذي نعنيه اليوم بالكتابة والفنون التي لا تنشد المجد، بمقدار ما تنشد الأرشفة. هذا ايضاً معرّض للزوال والتهديد، حيث باتت تقنيات الأنترنت في البحث تهدد بأرشفة كل شيء. التخرصات والشتائم إلى جانب الفلسفة والعلوم، ترصف جنباً إلى جنب، من دون تمييز او تقدير من اي نوع.
في القاهرة ثمة حديث عن الزمن الجميل. لكن زمن القاهرة الجميل لا يزال ماثلاً وحاضراً في شوارعها وحاراتها وميادينها. قد يكون مهملاً ولا يجد من يعتني به، لكنه على الأقل باق في مواجهة عاديات الزمان. وله ان يصمد بمقدار ما يستطيع، من دون ان يخشى اذية المتعصبين.
مدينة ترث نفسها
في بيروت ايضاً حديث عن الزمن الجميل. بيروت اصلاً هي حانوتيّ ازمان. لأن ازمانها كلها جميلة بلا استثناء. لهذا تحسن بيروت ان ترث نفسها. كل جيل يطرد سابقه من الميدان ويحل محله، وكل مرة نودع جيلاً كاملاً بالحسرة نفسها التي تجعلنا نقدّم بطاقة انتمائنا إليه. كما لو ان الذين يريدون ان يحفظوا بعض ماضي بيروت، يتحولون بقوة قاهرة إلى منفيين من متنها وحاضرها.
يوم غادر محمود درويش بيروت، غادرها بلا رجعة. كانت بيروت التي يغادرها جميلة. في الاقل هذا ما يقوله الشاعر نفسه. جميلة وصانعة زمن جميل. صانعة احلام كبيرة، بلغت في لحظات انتشاء سياسي وثقافي حدود الكون كله. بيروت هذه، كانت قد قامت على انقاض بيروت اخرى، هي ايضاً كانت جميلة: بيروت الخمسينات، المسرح في تجاربه العربية الأولى، الشعر المترجم، السجالات الفكرية، مجلات الأدب والشعر. هذا كله انزاح عن الواجهة ليصبح في متحف الذاكرة، ثم حلت محلّه افكار وفنون وسجالات من طينة اخرى، او ربما، تلطيفاً، من زمن آخر. في السبعينات كانت بيروت، في ظل الحرب الأهلية، متألقة وبارعة وجاذبة. لم تكن حربها تعيبها، ولم تجعلها غير مألوفة ومطروقة ومرغوبة. مع ان سنوات السبعينات من القرن الماضي في بيروت عرفت تعسفاً في جعل الأفكار التي انتشرت في ستيناتها مقرِّرة في نمط الحياة. في تلك البيروت انتشرت عادات وتقاليد جديدة، وألقيت اخرى في سلة المهملات. قارئ علوية صبح، في "مريم الحكايا"، لا بد ان يعجب من هذا الانتقال السريع في تقبل انماط الحياة بين الاخت وشقيقتها الأكبر سناً، حيث في وسع الأولى ان تعشق وتخرج وتسكر فيما لا تجرؤ مَن تكبرها ببضعة اعوام على خلع المنديل عن رأسها. بعض الذين قرأوا الرواية، ردّوا هذه المفارقة إلى سطوة المدينة، وإلى الصدمة التي تحدثها في حياة العائلات النازحة إليها من الريف. مع ذلك يجدر بنا ان نفكر في الأسباب التي دعت هؤلاء إلى النزوح إليها عائلات بكاملها. ذلك ان المدن تجتذب عادة إليها شباباً طامحاً ويشعر ان الريف لم يعد يتسع لمؤهلاته، فما بال بيروت تستقبل هجرات عائلات تامة الأعداد، اولاداً واحفاداً وآباء واجداداً؟ هذا على الأقل ما تقوله بعض اعمال حسن داوود ومحمد ابي سمرا.
الآباء المنفيون
قد تكون هذه ميزة بيروت، لكنها ايضاً قد تكون احد اسباب ذمّها. والأرجح ان ادونيس الذي زار المدينة محاضراً قبل سنوات قليلة بدعوة من "اشكال الوان"، وقال فيها ما اعتبره الكثيرون من اهل المدينة ومثقفيها تهجماً وتجنياً، انما كان يحاول القول ان مدينة بيروت التي كانت جميلة، وتصنع الزمن الجميل في خمسينات القرن الماضي، وربما ستيناته وسبعيناته، لم تعد هي نفسها، ذلك ان ادونيس تماهى إلى حد ما مع ذلك الزمن الذي اعقب الخمسينات. نجوم اليوم يختلفون منبتاً ومسلكاً ومصدراً وثقافة عن نجوم الامس. ومثقفو اليوم يختلفون اهتمامات واحلاماً ومراجع عن مثقفي الامس. والحياة تالياً في المدينة التي زارها ادونيس، تشبه إلى حد بعيد حياة اهل غرناطة لو زارها ابو عبدالله الصغير سراً بعدما سقطت في يد فردينان وايزابيل.
الذين ردّوا على ادونيس يومذاك، كانوا على حق في ما ذهبوا إليه. ادونيس نفسه لم يكن يشن هجوماً مجانياً. انه في معنى من المعاني زار المدينة التي كانت تعرفه ولم يجدها. بل انه على الأرجح قرأ في الصحف اللبنانية، التي تصدر من بيروت حصراً، تحقيقات لا تحصى عن تردي اوضاع بيروت الثقافية والفنية والسياسية: اين كمال جنبلاط من سياسيي اليوم، واين فيروز من مطربي اليوم واين "الندوة اللبنانية" من لقاء الثلثاء الثقافي؟ هذا كله كان يرد في تحقيقات ومقالات ويتحضر ليتحول افكاراً في زمن بيروت التي هاجمها ادونيس. مع ذلك لم ينصف ادونيس المدينة. المدينة التي رآها بشعة وغير منظمة على سمت معين ومفهوم، هي المدينة التي تصدح فيها حملات الدفاع ضد هجوم المباني الحديثة على المباني التراثية، وضد غزو المطاعم لدار الحرف اللبنانية، وفي ضرورة الدفاع عن شجرة شارع بلس التاريخية في وجه الأسمنت الذي لا قلب له ولا روح. لكن هذه المدينة التي تصدح فيها هذه الأصوات كلها دفعة واحدة، هي ايضاً المدينة التي كان يعمل فيها جاد تابت وبرنار خوري ونديم كرم، بصرف النظر عن طبيعة توجه كل من هؤلاء، المعماري والهندسي.
أمناء متاحف ومناضلون
المعنى من هذا كله، ان بيروت التي تندب زمنها الجميل، كانت تندبه كميت، اي كنصب لا يحقّ له ان يدخل في صلب السجال. وان النصب المجمَع عليه في هذا المعنى، لا يصح فيه القول سوى انه جميل وحسب، وهو جميل لأنه يصبح على وجه من الوجوه غير قابل للاستعمال. فتحويل ما كان مبنى سكنياً إلى نصب جميل، يجعله غير قابل لأيّ استعمال، ويجعل شاغليه على الأرجح امناء متاحف، مما يجعل الفنان والمبدع والسياسي ايضاً في زمن بيروت الذي قال فيه ادونيس ما قاله، محاصَراً بمتاحف من كل نوع، ومدعواً للخضوع إلى سلطتها. وحيث انها لم تعد غير شواهد على الماضي الجميل، فإن تكرارها يبدو مستحيلاً، لذلك يبدأ الخلاّق عمله معترفاً بتفوقها عليه. لا يستطيع المرء في اي حال من الأحوال ان يقارع نصباً وينتصر عليه، فالانصاب تنتصر دائماً على الأفراد. لذلك كان لزاماً على المرء في بيروت هذه ان يبدأ ادعاءه من تحت تلك الانصاب. هكذا في وسع راغب علامة ان يعترف بأهمية صباح وفيروز، وباستحالة تجاوز وديع الصافي ونصري شمس الدين، لكن اليوم يوم عمل، وعلى الحياة ان تستمر، وإن تكن من دون مجد.
قال ادونيس ما قاله في زمن بيروت ما بعد انتهاء الاعمال الحربية في التسعينات. وهو الزمن الذي راجت فيه المعاني المتناقضة التي كمنت وراء الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي في ذلك الحين، ذلك ان الخطاب اليومي الذي كانت تواجه به بيروت سائليها كان بالتحديد: لا عودة إلى الحرب الأهلية. كما لو ان الحرب ذهبت لكي تهدد بالعودة. وعلى اساس من اصرار اللبنانيين على هذا الشعار، تم التعايش في ظل مشروعين متباينين، إن لم نقل متناقضين: مشروع مقاومة ضد اسرائيل، في جنوب لبنان وبعض بقاعه، ومشروع اعمار وانماء في العاصمة وما حولها. وكلما نجح مشروع من المشروعين في ان يستأثر بصورة بيروت، بهتت الوان صورة المشروع الآخر. هكذا تناوب اللبنانيون على حروب وهُدن، كانوا في كل مرة يتعاملون معها كما لو انها من عاديات الطبيعة كالزلازل والهزات الأرضية والفيضانات. اي ان تلك الحروب المتعاقبة طوال التسعينات في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، كانت تبدو لبعض اللبنانيين كما لو انها اعراض الطبيعة الغاشمة، إذ سرعان ما ينسون ما جرى ويعودون إلى ما كانوا عليه، ما ان يعلن وقف لإطلاق النار، في الوقت الذي يشعر بعضهم الآخر ان هذا الاحتفال الصاخب الذي يميز بيروت في زمن الهدن لم يكن إلا رد فعل طبيعياً على قسوة العيش في الحرب وتحت شروطها. اي ان الحرب بالنسبة الى هؤلاء كانت مقيمة دائماً، لكن الهدوء كان عارضاً. كنا امام صورتين للبنان بليغتي التعبير تتناقضان وتتناحران تحت سقف واحد. صورة الانتحاري الذي يفجر جسده في مواجهة المحتل، وصورة البلد الذي يعيش رخيّ البال، بعدما انجز حروبه كافة ولم يعد ثمة ما يخشاه على هذا المستوى. وعلى نحو ما كانت تصدر من وسط بيروت وبعض غربها وشرقها صور لحياة الليل الصاخبة والسهرات الفنية ونجوم العالم الساهرين في علب بيروت الليلية، والجماهير التي تحتشد لسماع نانسي عجرم، كانت تصدر ايضاً من بيروت نفسها صور الانضباط العسكري الحاشد والدقيق التي كان "حزب الله" يظهرها في كل مناسبة. الغريب في هذا كله، ان متلقي الصور في العالم اجمع، لم يفطنوا ان هاتين الصورتين خارجتان من صلب مدينة واحدة، مما يعني ان الانفجار سيقع لا محالة في لحظة من اللحظات.
لم يقف التناقض عند هذا الحد، بل ان المسؤولين السياسيين دافعوا يومذاك عن الوجود السوري في لبنان، كما لو انهم يريدون العيش في يوم الخمر ويتركون للنظام السوري يوم الامر. ذلك الوجود الذي كان يستند في شرعيته إلى حجة من اثنتين، واحياناً إلى الحجتين معاً وجميعاً. الأولى تفيد ان الوجود السوري في لبنان مستمر إلى ان ينتهي الاحتلال الإسرائيلي وتستقر المنطقة على تسوية شاملة وعادلة، والثانية ان هذا الوجود مستمر إلى ان يبلغ اللبنانيون رشدهم السياسي والاجتماعي ويقلعون عن التقاتل والتذابح في ما بينهم. في هذا السياق كان يقع على اللبنانيين تنفيذ مهمتين متناقضتين تحت ضغط معطى واحد ومهيمن: الاستقالة من مترتبات التسوية العادلة والشاملة وايكال امرها إلى الديبلوماسية السورية، لينصرف كلٌّ إلى وظيفته: المقاوم للموت في مواجهة المحتل، ومعيد الإعمار إلى العمل بهمة من يملك يقيناً راسخاً بأن اي حرب لن تتجدد في لبنان. والحق ان الطرفين كانا يحاربان بما اوتيا من قوة وجهد، كل على جبهته، لكن القاسم المشترك بين الطرفين لم يكن يتحدد في غاية الانتصار في وصفه هدفاً نهائياً لهذه الجهود والتضحيات الكبيرة. كان الطرفان يقاتلان ليربحا الوقت، إذ يستحيل على اي منهما ان يربح الحرب. الوقت الذي يسمح للبنانيين بغبّ المتع والمباهج قبل ان تواصل الحرب اعمالها، والوقت الذي يسمح للبنانيين بتهيئة عدّة الحرب وتجهيز النفس قبل ان يستعاد مهرجان النار. ذلك ان التحرير في حد ذاته لم يكن سبباً لإبداء "حزب الله" بعض الفتور في الاستعداد والتجهيز للمعركة المقبلة. كان وقت الرقص هو وقت الاستعداد في الهدن التي تقع بين جولتين، وكان وقت الهدن هو الوقت الذي يسمح للبنانيين بعبّ المباهج وتخزينها في صدورهم وذكرياتهم واستعادتها لحظة مرور سحابة الصيف التي هي الحرب.
غلب على بيروت التسعينات صورة المدينة الناجية من كل الحروب. وفي تلك البيروت ولد نجوم ونجمات، واستعدّوا جميعاً لوراثة المدينة التي كانت، اي بيروت السبعينات. في تلك اللحظات كان كل تحذير من خطورة هذا التناقض يواجَه بسيل من الاعتراضات الشديدة والحادة. بيروت تلك ورثت سابقتها، وانشأت على مرأى من انصاب الحقبة السابقة وتماثيلها، مباني تستعد لتصبح بدورها في القريب العاجل انصاباً للذكريات. لكن الانفجار كان محتماً ولم يكن ثمة سبيل الى منعه. اقلّه عبر هذه السياسة السالفة الذكر. والأرجح ان ما منع الحذر عن بيروت واهلها كان متعلقاً بتاريخها، حيث انها مدينة تستعجل دفن نجومها. وغالباً ما تتجاهلهم وهم بعد قادرون على العطاء. لهذه الأسباب يستطيع المرء ان يتفهم معنى بيروت بالنسبة الى أدونيس، او غيره، فهي المدينة التي لا يعرفها، والتي تتنكر لاعلامها ونجومها كل جيل، وهو لا يرى من بيروت هذه غير اندلس تحتلها قصور القشتاليين البشعة والمترامية الاطراف، في محاولة لحجب قصر الحمراء الرشيق الأنيق او تحديه. كما لو ان بيروت اندلس ابنائها، الذين يبكونها مغادرين ويرجمونها عائدين.
بيروت المولودة بيروت الموؤودة
بعدما وقّع اللبنانيون "اتفاق الدوحة"، في قطر، رفع معتصمو المعارضة اللبنانية خيامهم من وسط بيروت. ساعتذاك زحف اللبنانيون للاحتفال بعودة وسط بيروت إلى ما كان عليه. لكنهم بعد ساعات قليلة على استعادة نجوم حقبة التسعينات لألقهم، في وسط بيروت، عادوا إلى الحقيقة المرة التي تقول ان تلك البيروت ماتت، وان بيروت جديدة تولد مكانها. اما الذين كانوا يغنّون في وسط بيروت من نجومها، فليسوا اكثر من انصاب استعادت اصواتها للحظات قليلة لتعود بعدها تماثيل من ملح. بيروت البهجة بانتهاء الحروب ماتت، ربما هي ماتت منذ حرب تموز 2006، وبيروت المقاومة ولدت. بيروت المولودة اليوم، والغضة الإهاب، ستكون من دون شك لامعة ومتألقة وصانعة نجوم. لكن ما لا نعرفه حتى الآن، كم ستبلغ من العمر قبل ان تموت!

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .