يرمي هذا النداء الى اطلاق حوار واسع وعمل مشترك في سبيل انهاء المأساة اللبنانية المتمادية واحلال سلام دائم في لبنان؛ وذلك بالتزامن مع المساعي الرامية الى احلال السلام في الشرق الأوسط. ويندرج هذا النداء، بما يدعو اليه من عمل مشترك، في سياق الجهود المبذولة لاستعادة حق اللبنانيين في حياة حرة، آمنة وكريمة؛ وهي جهود بدأت مع نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000، بعد انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان، وتواصلت بمبادرات ومحطات أساسية، من "لقاء قرنة شهوان" الى المنبر الديمقراطي الى مصالحة الجبل، مروراً بالتحركات الطلابية ومبادرات المجتمع المدني، وصولاً الى استشهاد الرئيس رفيق الحريري وعدد من قادة السياسة والرأي في الحركة الاستقلالية.
إن شعار "السلام الآن للبنان" في هذا النداء ليس "رهاناً" يمكن التخلي عنه إذا ما أخفق أو تعثّر نتيجة موازين القوى. ولا هو "عرض" موجّه للفريق الآخر، "فريق الحرب الدائمة"، ينبغي العدول عنه إذا ما رفض. إنه "خيار" نتمسك به في جميع الأحوال، ونناضل من أجله في مختلف الظروف، لأنه الشرط اللازم لنجاح النموذج اللبناني الذي أخترناه، نموذج العيش المشترك، فضلاً عن كونه القيمة الأخلاقية العليا في حياة البشرية جمعاء.
لماذا هذا النداء ؟
· لأن مأساة غزة كشفت سقوطاً أخلاقياً مريعاً لدى جانبين: فإذا كانت اسرائيل لا تقيم وزناً للانسان العربي، وترى أن من حقها تجويعه، وتشريده، وقتله، فايران أيضاً لا تقيم وزناً له وتعتبره مجرد وسيلة تستخدمها لمقاومة "الاستكبار العالمي" في لبنان وفلسطين، في حين أنها لا تستخدم الانسان الايراني لمقاومة هذا "الاستكبار" على حدودها الشرقية والغربية، أي في العراق وافغانستان. وإذا كانت اسرائيل تستبيح الدم العربي بحجة حماية مواطنيها، ف"المقاومات المسلحة" – على ما انتهت اليه في بلادنا - هي أيضاً تستبيح هذا الدم للاحتماء به بدلاً من حمايته من الوحشية الاسرائيلية، ولتحقيق "انتصارات" على شعبها في الداخل كما حصل في غزة (حزيران 2007) وفي بيروت (أيار 2008).
· لأن مأساة غزة كشفت أن لاسرائيل وايران مصلحة مشتركة في ابقاء لبنان وفلسطين ساحة حرب دائمة وفي رفض السلام: اسرائيل لأنها لم تستطع حتى الآن تقبّل فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة الى جانبها، وترى أن الحرب هي سبيلها لتأمين دعم غربي غير مشروط؛ وايران لأنها تريد، من خلال المقاومات المسلحة وتوظيف بعض الأنظمة العربية لا سيما النظام السوري، بسط نفوذها على المنطقة العربية، وتعتبر الحرب مدخلاً لمقايضة الغرب على دورها الأقليمي. وليس صدفة أن كان المطلب الوحيد للمجتمعين في الدوحة أثناء حرب غزة، بحضور ايران ورعايتها، هو سحب مبادرة السلام العربية.
· لأن هذا "اللقاء" الاسرائيلي-الايراني على اعتبار المنطقة العربية مجالاً حيوياً لنفوذ كل منهما، وليست "وحدة أقليمية" ذات مصلحة مشتركة. هذا "اللقاء" بات يهدد العالم العربي بالعودة الى تقسيمه مناطق نفوذ لقوى أجنبية، كما كان الحال في زمن الاستعمار الغربي.
هل يمكن كسر حلقة الموت العبثي التي تتهددنا جميعاً ؟
نعم !
§ إذا استطعنا، كلبنانيين، أن ننجز فيما بيننا مصالحة شاملة في العمق، وتسوية تاريخية وطيدة تنبذ "دوريات" العنف الداخلي والاستقواء بالخارج لأي سبب من الأسباب، وتركن الى دولة واحدة للجميع وفوق الجميع، بشروط الدولة المدنية الحديثة، السيدة والمستقلة، لا بشروط بعض الجماعات.
§ إذا ثبتنا على مطلبنا بالعودة الى حياة طبيعية بعد نصف قرن من الحروب الكبيرة والصغيرة التي استباحت بلدنا وحالت دون قيام دولة قادرة على ضمان مستقبلنا. والسبيل الأجدى لحماية أهلنا ومدننا وقرانا من الأخطار الخارجية، لا سيما الخطر الاسرئيلي، هو في تمسكنا بالقرار 1701 الذي يؤمن تحييد لبنان عن صراعات المنطقة المسلحة، ويدعو الى نزع سلاح كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان بحيث "لن تكون هناك أسلحة أو سلطة في لبنان غير أسلحة الدولة اللبنانية وسلطتها".
§ إذا استعدنا، كعرب، استقلالية القرار العربي وتمسكنا بمبادرتنا للسلام التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، وأعادت قمة الرياض تأكيدها في أذار 2007، وأصبحت في صلب قرارات الشرعية الدولية منذ قرار مجلس الأمن 1850. ولقد آن للمجتمع الدولي أن يفي بالتزاماته حيال المبادرة العربية، استجابة لمقتضيات العدالة، وللنداء – التحذير الذي أطلقته قمة الرياض الأخيرة.
§ إذا استخدمنا ما لدينا من قوة في أكثر من مجال لفرض احترام العدالة والقانون الدولي ووضع حد لسياسة الكيل بمكيالين التي دفعنا ثمنها غالياً: ضد السلاح النووي في ايران، ومعه في اسرائيل! مع تطبيق قرارات الشرعية الدولية بالقوة في العراق، والتغاضي عن عدم تطبيقها في فلسطين! مع اعتراف العرب بدولة اسرائيل، والتسامح مع اسرائيل في رفضها الاعتراف بالدولة الفلسطينية!...
§ إذا عرفنا كيف نوظف حاجة العالم الى طي صفحة "صراع الحضارات والثقافات" التي انتقلت عدواها الى داخل المجتمعات الغربية، وحاجته الى مساهمة العرب في حل الأزمة الاقتصادية العالمية، خاصة بعد بوادر العزم الأميركي على المراجعة والتغيير مع وصول باراك أوباما الى سدة الرئاسة الأميركية.
§ إذا استطاع المجتمع الايراني، بما ينطوي عليه من حيوية وعراقة، أن يتجاوز شهوة حكامه الحاليين للسيطرة على المنطقة العربية، وأن يعود بهم الى جادة الصواب والتعاون الإقليمي من أجل مصلحة مشتركة وسلام للجميع.
لماذا السلام الآن في لبنان ؟
× لأن السلام من شأنه أن يحمي لبنان من انتكاسة اقتصادية جراء الأزمات المالية والاقتصادية المتلاحقة في العالم والتي بدأت تنعكس سلبياً على شبابنا العاملين في الخارج، كذلك هو شرط ضروري لتأمين التنمية الإقتصادية والإجتماعية لبلدنا، وإتاحة الفرصة أمامه للدخول بخطى ثابتة في عصر العولمة. ذلك بتنمية رصيده الإنساني الذي يشكل ثروته الأساسية، وبتفعيل تلك الشبكة الإستثنائية التي يمثلها الإغتراب اللبناني في العالم.
× لأن السلام والاستقرار هما شرط لاصلاح دولتنا وتحريرها من الصراعات الطائفية التي تعيق حركتها ومن الزبائنية الطائفية التي تفسد عملها، وهما ايضاً شرط لإعطاء العدالة الآتية مع المحكمة الدولية بعدها الأوسع من خلال إعادة الاعتبار لفكرة القانون كناظم للحياة بين الناس. كذلك هما شرط لإقامة دولة مدنية تكفل للمواطنين دون تمييز حقوقاً متساوية وفرصاً متساوية للحصول عليها، دولة تضمن الحضور الحر للطوائف خارج منطق العدد الذي يستخدم لتخويف اللبنانيين، دولة تؤمن أوسع المشاركة من خلال اعتماد اللامركزية الادارية، دولة توفر العدالة للجميع من خلال سلطة قضائية مستقلة.
× لأن السلام هو السبيل لبناء مجتمع لا يُختزل فيه الفرد ببُعدِه الطائفي، مجرداً من دوائر إنتمائه الأخرى التي تُغني شخصيته، مجتمع لا يُستخدم فيه الدين لغايات سياسية وسلطوية، متحولاً بذلك عن وظيفته الأساسية، ألا وهي إرشاد البشر إلى العيش معاً بسلام، مجتمع يستطيع الفرد فيه أن يختار العيش وفق نظام الأحوال الشخصية الذي يراه مناسباً، دينياً كان أم مدنياً، مجتمع ليس فيه تمييز ضد المرأة، وحيث العدالة لا تميّز بين حاكم ومحكوم، مجتمع لا تُطيح فيه القوانين الراعية للحريات العامة بحرية الفرد، مجتمع يبدأ فيه احترام الذات من احترام الطبيعة...
× لأن السلام بما ينطوي عليه من تهدئة للخواطر والنفوس يسمح بالشروع في مراجعة ذاتية لإستخلاص عِبَر الحرب وتجاوز الماضي، وتأمين مصالحة اللبنانيين مع أنفسهم ومع الآخرين، كي يتمكنوا من معانقة مستقبلهم المشترك بأمان.
× لأن السلام شرط لازم لإعادة الإعتبار إلى نموذج العيش اللبناني، الذي لا تتأتّى أهميته من تجاور طوائفه الدينية أو تساكنها، بل من اختلاطها وتفاعلها اللذين يجعلان من المجتمع اللبناني بوتقة إنسانية فريدة، في زمن أصبح موضوع العيش معاً بسلام يمثل تحدياً جسيماً للإنسانية جمعاء، بفعل التغيّرات الهائلة التي أحدثتها العولمة،
× لأن السلام الدائم والشامل هو المناخ الملائم لتجديد دور لبنان في محيطه العربي وفي العالم: دوره المساهم في اشتقاق طريق عربية نحو الحداثة، والمشارك في خلق نظام جديد للمصلحة العربية المشتركة، حديث ومنفتح على العالم؛ دوره في تعزيز خيارات الإعتدال وتعزيز التواصل بين الاتجاهات الاصلاحية في المنطقة لدرء مخاطر حروب أهلية تترصّد غيرَ بلد عربي؛ دوره الأصيل في الجهود المبذولة للعودة بالمتوسط إلى ما كان عليه من صلة وصل وتفاعل بين شعوبه وثقافاته العريقة، الأمر الذي يشكل إحدى الضمانات الأساسية لإستقرار هذا الجزء الحيوي من العالم.
أيضاً لماذا السلام الآن ؟
لأن كل تلك القيم والحقوق، المتصلة بلبنان مجتمعاً ودولة، دوراً ومعنى، لم تعد تحتمل التأجيل والتسويف والتعليق !
نعم، نريد السلام الآن وهنا ! ونريد أن نكون في مستوى اختيارنا هذا، غير مترددين في السير نحو مقاصده النبيلة.
*****
كيف يمكننا تعزيز خيار السلام في لبنان ؟
يمكننا اعتماد خطوات كثيرة ومتنوعة، منها:
1. العمل على تحويل الانتخابات النيابية المقبلة الى استفتاء حول سلام لبنان. فلا يجوز التعامل مع هذه المحطة الأساسية وفق المنطق التقليدي القائم على اعتبار الانتخابات مجرد مناسبة لتحديد احجام الزعامات المحلية والاحزاب السياسية. انها انتخابات مفصلية سوف تقرر مستقبل لبنان لفترة طويلة.
2. اطلاق المبادرات من أجل ترجمة شعار السلام في واقع كل منطقة من مناطق لبنان حيث لا تزال تراكمات الحرب وتداعيات الصراعات العائلية والطائفية والمذهبية تتحكم بخيارات المواطنين، وتحول دون توحدهم في معركة انقاذ وطنهم.
3. اطلاق الحوار داخل المجموعات الطائفية من أجل وقف دوامة الاستقواء بالخارج ضد الداخل وعودة الجميع الى كنف الشرعية اللبنانية.
4. دفع القوى المشاركة في الحوار الوطني الى حسم موقفها ووضع القرار 1701 الذي حظى باجماع المتحاورين موضع التنفيذ، وتطبيق ما اتفقت عليه في اجتماعات الحوار التي انعقدت في العام 2006 لجهة انهاء السلاح الفلسطيني خارج المخيمات.
5. التواصل مع الانتشار اللبناني لتنظيم شبكة أمان خارجية دعماً لسلام لبنان.
*****
لم انتساب هذين النداء والمنتدى الى بيروت؟
لأن هذه المدينة العريقة، الغنية بتنوّع انساني فذّ، كانت لزمن طويل موطن التواصل والعيش المشترك في الشرق، قبل أن تصبح مسرحاً للقطيعة والحماقات، وأوَّلَ نموذج لحروب ما بعد الحرب الباردة!
§ ففي بيروت 1975، ومع تدمير وسطها الحاضن لكل أطياف الشعب، بدأت عملية فرز اللبنانيين، تخلّلها «تصفيات طائفية» على جانبي الخط الفاصل بين شطري العاصمة، مهَّدت لانقسام شامل وطويل الأمد!
§ وفي بيروت 1982، حاولت اسرائيل أن تفرض شروط قوتها على الفلسطينيين لحلّ المشكلة التاريخية الناجمة عن رفضها العيش معهم، كما حاولت أن تفرض على لبنان سلاماً منفرداً بعد حصار عاصمته وتدميرها، قبل أن تُجبَر على مغادرتها!
§ وفي بيروت أيضاً، اعتباراً من العام 1985، أخذ النزاع المسلح بين جبهتي الحرب يتحوّل حروباً صغيرة داخل كل جبهة، تارةً بين شيعةٍ وفلسطينيين، وطوراً بين سنة وشيعةٍ ودروز، ثم بين شيعة وشيعة، الى أن استلم المسيحيون راية الانقسام الذاتي بعنف غير مسبوق في تاريخهم!
§ وفي بيروت 1990، شرع النظام السوري في تنفيذ خطة عملية لضم لبنان الى سوريا، بهدف "إسقاط" اتفاقية سايكس-بيكو لعام 1916، و«استرداد» لبنان باعتباره جزءاً من «سوريا الكبرى»!
§ ولكن بيروت ذاتها كانت أيضاً، عام 1997، المدينة التي أطلق منها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني نداءه الشهير من أجل المصالحة وتنقية الذاكرة، ممهداً بذلك الطريق أمام نداء الكنيسة المارونية التاريخي (أيلول 2000) من أجل الاستقلال.
§ كذلك كانت بيروت 2002، المدينة التي أطلق منها الملوك والرؤساء العرب للمرة الأولى مبادرة سلام عربية من أجل وضع حد للنزاع العربي-الاسرائيلي.
§ وفي بيروت 2005، على أثر جريمة اغتيال رفيق الحريري، صنع اللبنانيون ثورة استقلالهم الثاني بوحدتهم، متجاوزين ماضي الفُرقة والحروب والآلام، فارضين حقهم وإرادتهم في العيش معاً داخل إطار وطني هم فيه أسياد قرارهم ومصيرهم. فلأول مرة في تاريخ المنطقة العربية يحدث التغيير السياسي على المستوى الوطني بإرادة الناس وقوتهم السلمية، لا بإرادة الخارج أو الانقلاب العسكري. بذلك رسمت ثورة الأرزخطاً فاصلاً بين حقبتين، مثلما فعل انهيار جدار برلين بالنسبة لدول أوروبا الشرقية، فاتحةً الطريق أمام التغيير الهادئ في العالم العربي.
§ وفي بيروت ذاتها، عام 2006، لم تتح سوريا وايران الفرصة للملمة الجراح التي تسببت بها حرب تموز 2006، فاستمرت في سياسة ترهيب الشعب والدولة في لبنان، واستنهاض العداوات المذهبية ، في محاولةٍ لإجهاض ثورة الاستقلال، ولقطع ما وصلهُ اللبنانيون فيما بينهم.
§ أخيراً شهدت بيروت 2008، تعبيرين ساطعين لإسلامين مختلفين: إسلام التطرُّف الذي حاول إخضاعها بقوة السلاح، مثلما أخضع غزة 2007؛ وإسلام السماحة والاعتدال، الذي حضر ممثلوه من كل أنحاء العالم العربي الى بيروت، ليشاركوا في افتتاح "جامع محمد الأمين" في وسط بيروت ومجمع الإمام الصادق الثقافي في ضاحيتها الجنوبية، وليؤكدوا وقوفهم بقوة في وجه التطرف والمتطرفين.
*****
لماذا بيروت اليوم؟
لأنه ههنا، في هذه المدينة ، يتقرر مصير لبنان ومعه مصيرالمنطقة ! فاللبنانيون اليوم ملزمون باختيار واحدةٍ من ثقافتين: ثقافة العنف والفصل والانعزال، أو ثقافة السلام والوصل والانفتاح. لذلك يتوجَّب عليهم الاختيار بين:
§ نظرتين الى لبنان: لبنان الساحة المفتوحة لكل من يريد أن يجرّب حظه في الحرب، أو لبنان المختبر الفريد للعيش معاً بسلام!
§ نطرتَين الى العالم العربي: عالم عربي متروك نهباً للأصوليات والتطرف، ومحكوم بتخلُّف مقيم، أو عالم عربي تعددي، حديث ومنفتح، قادر على استثمار طاقاته الهائلة في تنمية شاملة!
§ نظرتَين الى العالم: عالم محكوم لثنائية الخير والشر، الحق والباطل، في صراع لا نهاية له، أو عالم متضامن في السعي الى عولمة أكثر انسانية وعدلاً وتشاركية!
*****
هذا النداء هو نص مطروح للنقاش في مؤتمر يعقد في مطلع أذار 2009.
للمشاركة في المؤتمر يرجى الاتصال بأحد أعضاء اللجنة التحضيرية أو على العنوان الالكتروني:
Beirut2009@beirutletter.org
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق